بوابة صيدا
يقول ابن القيم رحمه الله في كتاب "هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى" 2 / 588 ـ 589
.... وَلَوْ عَرَفُوا مَعْبُودَهُمْ لَمَا قَالُوا فِي بَعْضِ مُخَاطَبَاتِهِمْ لَهُ: يَا أَبَانَا انْتَبِهْ مِنْ رَقْدَتِكَ لَا تَنَمْ.
وَلَوْ عَرَفُوهُ لَمَا سَارَعُوا إِلَى مُحَارَبَةِ أَنْبِيَائِهِ وَقَتْلِهِمْ وَحَبْسِهِمْ وَنَفْيِهِمْ، وَلَمَا تَحَايَلُوا عَلَى تَحْلِيلِ مَحَارِمِهِ وَإِسْقَاطِ فَرَائِضِهِ بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ.
وَلَقَدْ شَهِدَتِ التَّوْرَاةُ بِعَدَمِ فَطَانَتِهِمْ وَأَنَّهُمْ مِنَ الْأَغْبِيَاءِ.
وَلَوْ عَرَفُوهُ لَمَا حَجَرُوا عَلَيْهِ بِعُقُولِهِمُ الْفَاسِدَةِ أَنْ يَأْمُرَ بِالشَّيْءِ فِي وَقْتٍ لِمَصْلَحَةٍ ثُمَّ يُزِيلَ الْأَمْرَ بِهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ لِحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ، وَيُبَدِّلَ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَيَنْهَى عَنْهُ، ثُمَّ يُبِيحَهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ لِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، كَمَا هُوَ شَاهِدٌ فِي أَحْكَامِهِ الْقَدَرِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي لَا يَتِمُّ نِظَامُ الْعَالَمِ وَلَا مَصْلَحَتُهُ إِلَّا بِتَبَدُّلِهَا وَاخْتِلَافِهَا بِحَسْبِ الْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ وَالْأَمَاكِنِ، فَلَوِ اعْتَمَدَ طَبِيبٌ أَنْ لَا يُغَيِّرَ الْأَدْوِيَةَ وَالْأَغْذِيَةَ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ وَالْأَمَاكِنِ وَالْأَحْوَالِ لَأَهْلَكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَعُدَّ مِنَ الْجُهَّالِ، فَكَيْفَ يُحْجَرُ عَلَى طَبِيبِ الْقُلُوبِ وَالْأَدْيَانِ أَنْ تَتَبَدَّلَ أَحْكَامُهُ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ؟ وَهَلْ ذَلِكَ إِلَّا قَدْحٌ فِي حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمُلْكِهِ التَّامِّ وَتَدْبِيرِهِ بِخَلْقِهِ؟
وَمِنْ جَهْلِهِمْ بِمَعْبُودِهِمْ وَرَسُولِهِ وَأَمْرِهِ، أَنَّهُمْ أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا بَابَ الْمَدِينَةِ الَّتِي فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سُجَّدًا، وَيَقُولُوا حِطَّةٌ، فَيَدْخُلُوا مُتَوَاضِعِينَ لِلَّهِ سَائِلِينَ مِنْهُ أَنْ يَحُطَّ عَنْهُمْ خَطَايَاهُمْ، فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَائِهِمْ بَدَلَ السُّجُودِ لِلَّهِ، وَيَقُولُونَ: حِنْطًا سُقْمًا، أَيْ حِنْطَةٌ سَمْرَاءُ، فَذَلِكَ سُجُودُهُمْ وَخُضُوعُهُمْ، وَهَذَا اسْتِغْفَارُهُمْ وَاسْتِقَالَتُهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ.
وَمِنْ جَهْلِهِمْ وَغَبَاوَتِهِمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَرَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ آيَاتِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمَ سُلْطَانِهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ كِتَابَهُ وَعَهِدَ إِلَيْهِمْ فِيهِ عَهْدَهُ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهُ بِقُوَّةٍ، فَيَعْبُدُونَهُ بِمَا فِيهِ، كَمَا خَلَّصَهُمْ مِنْ عُبُودِيَّةِ فِرْعَوْنَ وَالْقِبْطِ، فَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ، وَامْتَنَعُوا مِنْهُ، فَنَتَقَ الْجَبَلَ الْعَظِيمَ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ عَلَى قَدْرِهِمْ، وَقِيلَ لَهُمْ: إِنْ لَمْ تَقْبَلُوا طَبَقْتُهُ عَلَيْكُمْ فَقَبِلُوهُ مِنْ تَحْتِ الْجَبَلِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: رَفَعَ اللَّهُ الْجَبَلَ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ وَبَعَثَ نَارًا مِنْ قِبَلِ وُجُوهِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْبَحْرُ مِنْ تَحْتِهِمْ، وَنُودُوا إِنْ لَمْ تَقْبَلُوا أَرْضَخْتُكُمْ بِهَذَا، وَأَحْرَقْتُكُمْ بِهَذَا، وَأَغْرَقْتُكُمْ بِهَذَا، فَقَبِلُوا وَقَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَلَوْلَا الْجَبَلُ مَا أَطَعْنَاكَ، وَلَمَّا آمَنُوا بَعْدَ ذَلِكَ قَالُوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا.
وَمِنْ جَهْلِهِمْ أَنَّهُمْ شَاهَدُوا الْآيَاتِ، وَرَأَوُا الْعَجَائِبَ الَّتِي يُؤْمِنُ عَلَى بَعْضِهَا الْبَشَرُ، ثُمَّ قَالُوا بَعْدَ ذَلِكَ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً.
وَكَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ أَمَرَ كَلِيمَهُ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ خِيَارِهِمْ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِهِ، فَاخْتَارَهُمْ مُوسَى وَذَهَبَ بِهِمْ إِلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا دَنَا مُوسَى مِنَ الْجَبَلِ وَقَعَ عَلَيْهِ عَمُودُ الْغَمَامِ حَتَّى تَغَشَّى الْجَبَلَ، وَقَالَ لِلْقَوْمِ: ادْنُوا، وَدَنَا الْقَوْمُ حَتَّى إِذَا دَخَلُوا فِي الْحِجَابِ، وَقَعُوا سُجَّدًا، فَسَمِعُوا الرَّبَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ يُكَلِّمُ مُوسَى، وَيَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ، وَيَعْهَدُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا انْكَشَفَ الْغَمَامُ، قَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً.
ــــــــــــــ
إقرأ ايضاً