بوابة صيدا
في بلدٍ اعتاد أن يُكتب تاريخه بالرصاص قبل الحبر، برز اسم بشير الجميّل كواحد من أكثر الشخصيات إثارة للجدل في تاريخ لبنان الحديث. شابٌ ماروني من الأشرفية، نشأ في كنف حزب الكتائب، لكنه لم يكتفِ بالخطابة، بل حمل السلاح، وقاد ميليشيا تحوّلت إلى قوة سياسية وعسكرية نافذة. في زمن الحرب الأهلية، لم يكن بشير مجرد قائد، بل كان مشروعًا لرئاسة تُبنى على التحالفات، لا على التوافق.
تحالف مع إسرائيل، وواجه السوريين، وخاض حروبًا داخلية ضد الفلسطينيين والخصوم المسيحيين على حدّ سواء. صعد بسرعة، وانتُخب رئيسًا للجمهورية في ظل الاحتلال الإسرائيلي لبيروت، لكنه لم يُمهَل ليحكم.
في 14 أيلول 1982م (26 ذو القعدة 1402هـ) دوّى انفجار في مقر الكتائب، وسقط بشير، تاركًا خلفه سؤالًا لم يُجب عليه حتى اليوم: هل كان مشروعًا لإنقاذ لبنان... أم لتقسيمه؟
هذه السيرة ليست عن رجلٍ فقط، بل عن مرحلةٍ اختلط فيها المجد بالدم، والوطن بالتحالف، والرئاسة بالاغتيال.
ولد بشير الجميل في 10 تشرين الثاني / نوفمبر 1947م (27 ذو الحجة 1366هـ) و هو الابن الأصغر للزعيم المسيحي بيار الجميل مؤسس ورئيس حزب الكتائب اللبنانية وشقيق رئيس الجمهورية أمين الجميل. تلقى دروسه الجامعية بكلية الحقوق في جامعة القديس يوسف، ونال في عام 1971 شهادتين في الحقوق والعلوم السياسية.
وفي عام 1972 سافر إلى الولايات المتحدة لمتابعة دراسته، إلا إنه قطعها وعاد في أيلول / سبتمبر من العام نفسه وفتح مكتبًا للمحاماة، إلا إنه أقفل المكتب مع بداية الحرب الأهلية وتفرغ للعمل العسكري.
انضم إلى الميليشيات التابعة لحزب الكتائب في سن السادسة عشرة، تدرج في الحزب حتى أصبح قائده العسكري، ومن ثم أسس القوات اللبنانية وتولى قيادتها والتي كانت من أهم الأطراف المتناحرة في الحرب الأهلية اللبنانية.
مع اندلاع الحرب الأهلية سنة 1975 خاض صراعات دموية مع المنظمات الفلسطينية المسلحة (وخاصة منظمة التحرير)، وكذلك مع القوى الوطنية اللبنانية.
بعد التدخل السوري في لبنان عام 1976م كجزء من قوات الردع العربية، كان بشير من أبرز المعارضين للوجود العسكري والسياسي السوري في لبنان، واعتبره احتلالًا يجب مقاومته، و رأت سوريا في بشير الجميل وقواته تهديدًا مباشرًا لنفوذها في لبنان.
قاد بشير الجميل القوات اللبنانية في سلسلة من المعارك الداخلية للسيطرة على المناطق، فشن سلسلة من الحملات العسكرية للسيطرة على المناطق المسيحية والقضاء على الميليشيات المسيحية المنافسة، أهمها:
مجزرة اهدن: في 7 حزيران / يونيو 1978م (2 رجب 1398هـ) وعلى إثر مقتل العضو في الكتائب "جود البايع" على يد قوات المردة قام بإرسال قواته لمدينة إهدن لاختطاف قائد مليشيا المردة طوني فرنجية ابن الرئيس سليمان فرنجية وذلك لإجباره على تسليم المسؤولين عن مقتل العضو الكتائبي، إلا أن العملية انتهت بمقتل طوني وعائلته والمقاتلين التابعين له، وهي الواقعة التي سميت فيما بعد بمجزرة إهدن، وقد أنهى الرئيس سليمان فرنجية ارتباط المردة بالجبهة اللبنانية بعد مقتل ابنه.
حرب المائة يوم: و ما بين تموز / يوليو وتشرين الأول / أكتوبر من عام 1978م قام الجيش السوري بمحاصرة بيروت الشرقية معقل القوات اللبنانية فيما سمي بحرب المئة يوم، وحدث خلال تلك الفترة قصف شديد لبيروت الشرقية ومنطقة الأشرفية، ولم تنته الاشتباكات إلا بعد وساطة عربية أدت إلى وقف إطلاق النار، وخرج بشير الجميل من تلك الحرب وهو يعتبر نفسه منتصر.
مجزرة الصفرا: في عام 1980م أرسل قواته إلى الصفرا لقتال قائد ميليشيا نمور الأحرار الجناح العسكري لحزب الوطنيين الأحرار داني شمعون، وتم القضاء تمامًا على ميليشيا النمور فيما عرف باسم مجزرة الصفرا، وقد نجا داني وذهب ليعيش في بيروت الغربية التي كانت ذات أغلبية مسلمة، بينما أصبح هو بعد ذلك المسيطر الأوحد على القوات اللبنانية، والقائد الأوحد للمعسكر المسيحي تقريبًا.
في عام 1981 تصادمت سوريا مرة أخرى مع القوات اللبنانية التي يقودها بشير بعد سيطرتها على مدينة زحلة.
رأى بشير الجميل في منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت تمتلك دولة داخل الدولة في لبنان وتقود المقاومة من هناك، الخطر الأكبر على سيادة لبنان وهوية نظامه الماروني المسيطر. و وجد في إسرائيل حليفًا طبيعيًا وقويًا لمحاربة هذا الخطر المشترك، فأقام بشير الجميل تحالفًا وثيقًا مع إسرائيل، و تطور التحالف من اتصالات سرية إلى تعاون عسكري ميداني كامل خلال الحرب الأهلية، خاصة بعد التدخل العسكري الإسرائيلي المباشر في لبنان عام 1982م (اجتياح لبنان) فقد قدمت القوات اللبنانية بقيادته الدليل الاستخباراتي والميداني للجيش الإسرائيلي.
في 25 تموز / يوليو 1982م (5 شوال 1402هـ) أثناء الاحتلال الإسرائيلي للبنان، رشح بشير الجميل نفسه لمنصب الرئاسة ودعمته الولايات المتحدة التي أرسلت قوات حفظ السلام للإشراف على انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان.
في 23 آب /أغسطس 1982م (4 ذو القعدة 1402هـ) وبسبب كونه المرشح الوحيد لمنصب رئاسة الجمهورية اللبنانية، تم انتخاب بشير الجميل رئيساً للبنان.
أشارت صحيفة يديعوت أحرنوت" العبرية في 17 حزيران / يونيو 2022م (18 ذو القعدة 1443هـ) عن وثائق تحوي تفاصيل سرية متعلقة بارتكاب مجزرتي صبرا وشاتيلا منتصف أيلول/ سبتمبر عام 1982، إلى أنه بين أهداف الحرب التي شنتها "إسرائيل" على لبنان، كان تنصيب بشير الجميل رئيسًا، ولفت التقرير إلى عمل عناصر الموساد والجيش الإسرائيلي على نقل أعضاء برلمان (نواب) لبنانيين، تحت تهديد السلاح، كي يصوتوا لصالح (زعيم الكتائب) بشير الجميل لانتخابه رئيسًا للبنان.
في 1 أيلول/سبتمبر، 1982م (13 ذو القعدة 1402هـ) قبل اغتياله بأسبوعين، وبعد انتخابه كرئيس بأسبوع، قابل الجميل رئيس وزراء إسرائيل مناحيم بيغن في نهاريا. أثناء الاجتماع، شكر بشير قادة إسرائيل على دعمهم للقوات اللبنانية ووعدهم بتوقيع معاهدة سلام معهم فور تسلمه لمنصبه كرئيس.
كشف الجنرال الإسرائيلي عاموس غلعاد، الرئيس السابق للدائرة السياسية والأمنية بوزارة الحرب، في تقرير مايا بوانوس الكاتبة في صحيفة معاريف أنه كان في مكتب الجميل حين وصلته رسالة كُتب فيها: "طالما أنك عشيق الإسرائيليين، فسنتسامح مع ذلك، لكن إذا حصل زواج، فسيكون هناك أرامل، أي إذا وقّعت سلامًا معهم، فسنقتلك، وفي النهاية حدث ذلك".
الساعة 4:10م يوم 14 سبتمبر/أيلول، 1982م (26 ذو القعدة 1402هـ) وبينما كان بشير يخطب في أعضاء من الكتائب، انفجرت قنبلة مما أدى إلى مقتل بشير و26 سياسيًا آخر من الكتائب.
في الصباح التالي، وعلى الرغم من انتشار إشاعات تفيد بنجاة بشير من الاغتيال، أكد رئيس الوزراء اللبناني شفيق الوزان أن بشير الجميّل قد قتل.
اتهم بالاغتيال حبيب الشرتوني وهو مسيحي ماروني وعضو في الحزب السوري القومي الاجتماعي،
أُلقي القبض على حبيب الشرتوني اعترف بأنه نفذ عملية الاغتيال لأن بشير الجميّل "باع لبنان إلى إسرائيل". وتم سجن الشرتوني لـ 8 سنوات قبل أن تسيطر القوات السورية على بيروت الشرقية، في نهاية الحرب الأهلية وتحرره في 13 أكتوبر/تشرين الأول 1990م.
اغتيال بشير الجميل مهّد لواحدة من أبشع المجازر في تاريخ لبنان، بعد يومين من مقتله، ارتكبت القوات اللبنانية بقيادة إيلي حبيقة مجزرة "صبرا وشاتيلا"، مما أدى إلى وقوع حوالي 3000 شهيد معظمهم من الفلسطينيين، ومعظمهم من النساء والأطفال.
ــــــــــــ
إقرأ ايضاً
معارك نهر البارد بين الجيش اللبناني ومجموعة فتح الإسلام في الشمال
الحكومة اللبنانية توقع معاهدة 17 ايار مع دولة الاحتلال