بوابة صيدا
كان القرن الخامس عشر في شبه الجزيرة الأيبيرية (الأندلس) مسرحاً لتحول مصيري، حيث شهد ولادة إسبانيا الحديثة على أنقاض واحدة من أكثر الحضارات تألقاً وتنوعاً في تاريخها.
في قلب هذه التحولات الجيوسياسية والدينية العاصفة، تقف شخصية واحدة بصلابة وقوة إرادة نادرتين: "الملكة إيزابيلا الأولى ملكة قشتالة". لم تكن مجرد حاكمة، بل كانت مهندسة رؤية، رؤية لوحدة سياسية ودينية لا مكان فيها للآخر. يمثل عهدها لحظة فارقة في التاريخ، لحظة تم فيها رسم مصير عالم بأكمله عند نقطة التقاء حدثين ضخمين؛ "سقوط غرناطة"، آخر قلاع المسلمين في الأندلس، و"إنشاء محاكم التفتيش الإسبانية".
هذان الحدثان لم يكونا منفصلين، بل كانا وجهين لعملة واحدة: عملة "التطهير" وبناء هوية قومية كاثوليكية خالصة.
تبحث هذه المقالة في هذا الإرث المزدوج، فتحكي قصة الملكة التي أنهت بحد السيف ثمانية قرون من الوجود الإسلامي، وأشعلت بنيران التعذيب حقبة جديدة من السيطرة الدينية، لتُولد من رحم هذا الصراع "إسبانيا الكاثوليكية" التي غيرت وجه أوروبا والعالم إلى الأبد.
ولدت " إيزابيل بنت خوان الثاني" في 22 نيسان / أبريل 1451م (12 ربيع الأول 855هـ).
كانت دراستها دينية كاثوليكية، في وقت كانت تسيطر على الكاثوليك في إسبانيا فكرة واحدة هي التخلص من المسلمين وطردهم خارج إسبانيا.
في تشرين الأول / أكتوبر سنة 1469م / 874هـ عُقد زواجها من ابن عمها فرناندو (ولي عهد أراغون)، في مدينة بلد الوليد - حيث كانت تقيم إيزابيلا في ذلك الوقت - في حفل خاص لم يشهده سوى عدد قليل من الأصدقاء، ثم أخطرت الأميرة أخيها الرافض لهذا الرواج برسالة تشرح فيها بواعث إقدامها على ذلك.
ولما تولى زوجها عرش أراغون عام 1479م أصبحت تحمل أيضاً لقب ملكة أراغون وكان ذلك بداية توحيد مملكتي قشتالة وأراغون اللتين شكلتا نواة الدولة الإسبانية.
أُعلنت إيزابيلا في كانون الأول / ديسمبر 1474م عقب وفاة أخيها هنري الرابع ملكة لقشتالة وليون في بلدة شقوبية؛ حيث كانت تُقيم آنذاك، ودخلت مدن أخرى في طاعتها، ولكن الأمر لم يكن سهلاً؛ لأن ثمة فريق من النبلاء كان يناصر الأميرة خوانا ابنة الملك المتوفى، كما كان زوج إيزابيلا الأمير فرناندو الأرجوني يطمع هو الآخر في انتزاع العرش لنفسه؛ باعتباره آخر الأبناء من الذكور لعائلة قشتالة المالكة، ولكن إيزابيلا تمسكت بحقها، واتفقت مع زوجها على مزاولة الملك المشترك؛ فتكون إيزابيلا ملكة أصلية لقشتالة لها الرأي الأول في الأمور الجليلة، في حين يجري القضاء وتُسك العملة باسميهما.
كانت الملكة إيزابيلا تتمتع بكثير من الذكاء والعزم، وكانت تُثير برقتها وتواضعها واحتشامها حب الشعب القشتالي وإعجابه؛ بيد أنها كانت تجيش بنزعة صليبية عميقة تذهب كثيرًا مذهب التعصب الأعمى، وكانت تقع تحت تأثير الأحبار المتعصبين وتنزل عند تحريضهم وتوجيههم، وكان مشروع القضاء على الإسلام في الأندلس يُذكي في نفس هذه الملكة الصليبية أشنع ضروب التعصب.
كانت مملكة غرناطة الإسلامية هي آخر معقل للمسلمين في شبه الجزيرة الأيبيرية، وكان القضاء عليها هدفاً رئيسياً للملكين الكاثوليكيين لأسباب متعددة:
1. دينية: حماسة دينية لنشر المسيحية الكاثوليكية وتوحيد إسبانيا دينياً تحت شعار "إسبانيا الكاثوليكية".
2. سياسية: تعزيز سلطتهما وسيطرتهما على كامل أراضي شبه الجزيرة، والقضاء على أي مركز قوة منافس.
3. اقتصادية: كانت غرناطة مملكة غنية، وكان سقوطها يُمكّن القشتاليين من السيطرة على طرق التجارة والزراعة المزدهرة فيها.
بدأت الحرب بشكل متقطع ثم تحولت إلى حرب استنزاف طويلة استمرت 11 سنة.
استخدم الملكان الموارد الهائلة لقشتالة في تمويل الحرب، بينما قاد فرناندو الحملات العسكرية بنفسه غالباً، كانت إيزابيلا تلعب دوراً محورياً في التنظيم اللوجستي، وإدارة الشؤون المالية، وحتى حضور بعض المعارك لحشد الروح المعنوية للجيش. كما أشرفت شخصياً على إنشاء مخيمات عسكرية متنقلة ومستشفيات ميدانية، وهو ما كان شيئاً مبتكراً في ذلك الوقت.
خاضت جيوش إيزابيلا وزوجها فرناندو حرباً ضروساً في مواجهة مملكة غرناطة دامت أحد عشر عاماً (1481-1492) تمكنت في أثنائها من احتلال مدينة مالقة (1487م) ثم مدينة ألمرية (1489م)، وبسقوط حكم أبو عبد الله في 2 كانون الثاني / يناير 1492م (22 صفر 897هـ) في غرناطة انتهى الحكم الإسلامي في الأندلس.
وقّع الملكان معاهدة مع المسلمين المهزومين تضمنت بنوداً "متسامحة" مثل:
ضمان حرية المسلمين في ممارسة دينهم.
احترام قوانينهم وأوقافهم.
عدم إجبارهم على اعتناق المسيحية.
لكن هذه البنود لم تُحترم لوقت طويل، تحت ضغط من الكاردينال "سيسنيروس"، بدأت سياسات التبشير القسري، مما أدى إلى ثورة المسلمين في غرناطة (1499م-1501م).
رداً على الثورة، ألغى الملكان الكاثوليكيان معاهدة التسامح وأصدرا مرسوماً يفرض على جميع المسلمين في مملكة قشتالة إما اعتناق المسيحية أو الطرد.
قاما بطرد مئات الآلاف من المسلمين من الأندلس، و أنشأ الملكان الكاثوليكيان محاكم التفتيش الإسبانية (ديوان التحقيق الإسباني) بموافقة البابا "سيكستوس الرابع" في عام 1478م، فمارست أبشع أنواع التعذيب والإرهاب الفكري والديني، وذهب ضحية المحاكم مئات الآلاف من المسلمين الذين أجبروا على التنصر أولاً ثم اتهموا بأنهم ما يزالون يبطنون الإسلام، كما لقي اليهود المصير ذاته. وتعد هذه المحاكم والممارسات اللاإنسانية التي قامت بها، صفحة سوداء في تاريخ هذه الملكة وزوجها.
وقد منح البابا "اسكندر السادس" في عام 1496 كلاً من إيزابيل وفرناندو لقب «الملكان الكاثوليكيان» تقديراً لجهودهما في محاربة الإسلام ونشر الديانة المسيحية.
استطاعت الملكة إيزابيلا تأسيس امبراطورية إسبانيا في العالم الجديد التي جعلت منها أقوى الممالك الأوربية وأغناها في القرن السادس عشر، و ضمنت الاستقرار السياسي طويل الاجل في إسبانيا عن طريق ترتيب الزيجات الاستراتيجيه لكل من اطفالها الخمسة.
ولكنها فُجعت في العقد الأخير من حياتها بفقد ابنها ووريثها الوحيد خوان (1497م) وموت ابنتها إيزابيلا ملكة البرتغال ثم موت حفيدها (1500م). وآل عرش قشتالة بعد وفاتها إلى ابنتها خوانا الملقبة بالمجنونة.
توفيت ايزابيلا عام في 23 تشرين الثاني 1504م (15 جمادى الآخرة 910هـ).
تذكر كتب التاريخ ان الملكة ايزابيل لم تغتسل طيلة حياتها إلا مرة واحدة، لأنها اقسمت ألا تغتسل حتى تُطهر شبه الجزيرة الايبيرية (الأندلس) من العرب والمسلمين.
وتؤكد كتابات بعض المؤرخين انها ماتت متأثرة بمرض جلدي اصابها بسبب القاذورات التي كانت عالقة بجسدها!
يقول العلامة الفهامة الإمام محمد تقي الدين الهلالي المغربي رحمه الله في ترجمته لكتاب "مدنية المسلمين بإسبانيا" للعالم الأمريكي الشهير جوزيف ماك كيب في معرض كلامه عن إيزابيلا ملكة قشتالة: الصفحة 105. "إيزابيلا ( Isabella (1451-1504 ملكة قشتالة. استولت على الملك سنة 1474م داهية مكارة متعصبة. بذلت جهدها في تجديد المحنة و تعذيب المسلمين واليهود. و ارتكبت خطايا كثيرة باسم الدين. و أما أحوالها الخاصة فلم تكن مما تغبط عليه: لأنها كانت تفتخر بأنها لم تغتسل في حياتها إلا مرتين يوم ولادتها سنة 1451م و ليلة عرسها سنة 1469م. و غسلت حين ماتت سنة 1504 فتمت لها الغسلة الثالثة والحقيقة أنها لم تغتسل إلا مرة واحدة وهي في ليلة عرسها. لأن غسلها يوم ولادتها و غسلها يوم موتها ليس من عملها."
ـــــــــــــ
إقرأ أيضاً
قلعة بلا مقاومة.. بندر في قبضة الإمبراطورة كاترين
رصاصة في قلب الانتداب: اغتيال أندروز وبداية التصعيد الفلسطيني