بوابة صيدا
تحت وطأة المدافع واللهب، شهدت شواطئ الخليج العربي فصلًا داميًا من صراع النفوذ والتجارة، عندما شنت القوات البريطانية حملتها العسكرية الثانية على معقل القواسم في رأس الخيمة في السابع عشر من نوفمبر (10 شوال 1224هـ).
جاءت هذه الحملة العسكرية الضخمة ردًا بريطانيًا حاسمًا على ما وصفته "باستمرار أعمال القرصنة" التي تهدد مصالح شركة الهند الشرقية وخطوط الملاحة الحيوية إلى مستعمرتها الثمينة، الهند. بعد أن أثبتت الحملة البريطانية الأولى قبل سنوات فشلها في كسر شوكة القواسم، عاد الأسطول البريطاني هذه المرة بقوة أكبر وعزيمة أشد، حاملًا على متنه آلاف الجنود النظاميين ومزودًا بمدافع سفنه الثقيلة.
في مشهد لم تشهده المنطقة من قبل، حاصر الأسطول البريطاني المدينة الحصينة، ليبدأ قصفًا مدمرًا أعقبه إنزال للقوات على البر. ما إن اخترقت القوات دفاعات المدينة حتى اندلعت معارك شرسة في الأزقة والشوارع، انتهت بسقوط المعقل الرئيسي للقواسم. لم تكتف بريطانيا بالسيطرة على الأرض، بل أقدمت على تدمير شامل للأسطول القاسمي الراسي في الميناء، محولةً عشرات السفن إلى رماد، ومحطمةً بذلك عصب القوة البحرية للقبيلة التي طالما броت بظلالها على مياه الخليج.
هذه الحملة لم تكن مجرد غارة عقابية عابرة، بل كانت رسالة واضحة المعاني: بريطانيا عازمة على بسط هيمنتها البحرية المطلقة، بثمنٍ من الدماء والدخان، ليبدأ فصل جديد من تاريخ المنطقة، تُرسم فيه معالم القوة بحدود السيف والمدفع.
القواسم قبيلة عربية كونت امارة كبيرة في رأس الخيمة والشارقة وبندر لنجة، بدأت زعامتهم في النصف الثاني من القرن الثاني عشر للهجرة على أثر انحلال دولة اليعاربة. وكانت بداية دولتهم في ما يسمى اليوم برأس الخيمة والشارقة، ثم انتشرت لتشمل أجزاء من شرق الخليج العربي بساحليه الشمالي والجنوبي، إضافة للجزر.
وتمكن القواسم في القرن السابع عشر الميلادي من جمع أضخم قوة بحرية في المنطقة ثم أصطدموا مع بريطانيا الأمر الذي دفع الانجليز لارسال حملة بحرية لمهاجمة القواسم، ولقد لعب القواسم دوراً رائداً في تاريخ الخليج العربي.
كان أحد أجدادهم، "قاسم الكبير الحسيني السامرائي"، قد جاء ليقيم في جلفار منذ القرن السابع عشر. وبفضله أصبحت هذه المدينة المركز الرئيسي للقواسم وعرفت منذ ذلك الحين باسمها رأس الخيمة.
سعى مجلس رئاسة شركة الهند الشرقية البريطانية في بومباي إلى العمل على كبح جماح القواسم الذين باتوا يشكلون خطرا كبيرا على سفن الشركة المتجهة من وإلى موانئ الخليج العربي، وكان القواسم قد نقضوا اتفاقية 6 شباط / فبراير عام 1806م (18 ذو القعدة 1220هـ) باشتراكهم مع السعوديين في الهجوم على موانئ عُمان مما أثار المخاوف لدى البريطانيين من حدوث المزيد من الاضطرابات العسكرية التي تؤثر على سير الملاحة في المنطقة.
دعمت بريطانيا حاكم مسقط ضد القواسم وحلفائهم السعوديين، وعملت على اعداد حملة عسكرية بحرية بريطانية هي الثانية ضد القواسم.
في أوائل أيار / مايو عام 1808م حدث اشتباك بين عدد من قوارب القواسم وبين طراد فيوري البريطاني المهجز بالمدفعية، حين استفز الطراد البريطاني قوارب القواسم، وهو في طريقه من البصرة إلى بومباي، مما اضطرهم للرد على استفزازته، وقد استطاع الطراد أن يكبد القواسم خسائر كبيرة في الأرواح.
في منتصف أيار / مايو عام 1808م هاجم القواسم السفينة التجارية البريطانية مينرفا التابعة للمستر مانستي بالقرب من رأس مسندم وهي في طريقها من بومباي إلى البصرة وتمكن القواسم في هذه المرة من الاستيلاء عليها وتفريخ حمولتها في راس الخيمة.
وفي 20 تشرين الأول / أكتوبر عام 1808م (1 رمضان 1223هـ) هاجم القواسم الطراد البريطاني سيلف واستولوا عليه وسحبوه إلى رأس الخيمة وأسروا العديد من بحارته ومن بينهم زوجة الكابتن روبرت تايلور، وكذلك قائد الطراد الذي اعدمه القواسم وكان حمولة الطراد سيلف حوالي ثمانية وسبعون طنا وعلى سطحه ثمانية مدافع وكان هذا الطراد هو أحد قطع الاسطول للسير هارفورد جونز في بعثته إلى بلاط شاه فارس.
دفعت تلك المناوشات العسكرية بين القواسم وسفن شركة الهند الشرقية البريطانية رئاسة الشركة القيام بالحملة الثانية وقد طلب سعيد بن سلطان حاكم عمان من البريطانيين الاشتراك في تلك الحملة ضد القواسم..
في 7 أيلول / سبتمبر عام 1809م (28 رجب 1224هـ) تحركت حملة قوية من بومباي بقيادة الكولونيل سميث والكابتن جون وين رايت وعين الكابتن سيتون مسئولا سياسيا لها وتكونت الحملة من (السفينة تشيفون) ستة وثلاثون مدفعا و (السفينة كارولين) ستة وثلاثون مدفعا وطرادات الشركة (مورنينجتون) و (تيرنيت) و (اورور) و (ميركوري) و (نوتيلوس) و (برنس اوف ويلز) وكان الهدف الأساسي لتلك الحملة تدمير القوة البحرية للقواسم تدميرا تاما وإطلاق سراح الرعايا البريطانيين والهنود وإعادة بعض المواقع التي انتزعها القواسم في خليج عُمان إلى سلطان مسقط.
وصلت الحملة البريطانية إلى مسقط حيث ظلت عدة أيام، ناقش خلالها قادتها الخطط العكسرية للقضاء على القواسم مع حاكم عُمان سعيد بن سلطان.
في 11 تشرين الثاني / نوفمبر عام 1809م (4 شوال 1224هـ) وصلت سفن الحملة إلى رأس الخيمة ولكن ضحالة المياه امام سواحل رأس الخيمة اضطرت السفن إلى الوقوف على مسافة تتراوح بين ميلين وأربعة أميال وبدأت السفن قصف المدينة طوال يوم 12 تشرين الثاني/ نوفمبر (5 شوال 1224هـ).
دافع القواسم ببسالة عن مدينة راس الخيمة بيد ان البريطانيين تمكنوا في صباح يوم 13 تشرين الثاني / نوفمبر عام 1809م (6 شوال 1224هـ) من فتح ثغرة في دفاع المدينة واندفعوا منها إلى داخلها وعند الظهر تمكنوا من احتلال وسط المدينة في حين ظلت الأجزاء الشمالية منها في أيدي القواسم وشرعت سفن الشركة بعد ذلك في تدمير واحراق أسطول القواسم.
ترددت الأنباء عن اقتراب قوات كبيرة من السعوديين في اتجاه رأس الخيمة ولما كانت تعليمات الرئاسة الصادرة للسفن البريطانية تحظر عدم الاشتباك مع السعوديين في عمق اليابسة من أراضي رأس الخيمة فقد اصدر قادة الحملة في صباح يوم 14 تشرين الثاني / نوفمبر عام 1809م (7 شوال 1224هـ) أوامرهم بعودة الجنود البريطانيين إلى سفنهم وطراداتهم حتى لا تتورط القوات البريطانية في معارك برية قد لا يكون النصر حليفها فيها.
غادرت الحملة رأس الخيمة إلى لنجة ميناء القواسم الواقع على الساحل الشرقي للخليج العربي واستولت عليه دون مقاومة في 17 تشرين الثاني / نوفمبر عام 1809م (10 شوال 1224هـ) بينما توجهت السفينة كارولين بالاشتراك مع سفن حاكم مسقط سعيد بن سلطان في 6 كانون الأول / ديسمبر عام 1809م (29 شوال 1224هـ) للهجوم على خورفكان وكلبا وشناص لاستعادتها من قبضة القواسم وتم ذلك في 31 كانون الأول / ديسمبر عام 1809م (25 ذو القعدة 1224هـ).
في نفس الوقت تحرك الطرادان ترينيت ونوثيلوس نحو جزيرة قشم وميناء لافت لاخضاعها حيث كانت توجد قوة للقواسم محصنة ومزودة بالمتاريس والمدافع. وبدات الاشتباكات بين الطرفين بصورة عنيفة وفي 28 تشرين الثاني / نوفمبر عام 1809م (21 شوال 1224هـ) تم الاستيلاء على الميناء وحرق سفن القواسم الموجودة هناك وعددها عشر سفن.
وقد أعرب قائد الحملة الكولونيل سميث في تقرير له إلى مجلس رئاسة الشركة البريطانية في بومباي عن أمله في أن يكون القواسم قد تلقوا درسا جيدا من هذه الحملة.
وعلى الرغم من عنف تلك الحملة العسكرية البحرية التي قامت بها سفن الشركة البريطانية ضد القواسم إلا أنها لم تأت بنتائج إيجابية بشكل كاف ولم تحقق كل الأهداف التي قامت من أجلها، فلم تتمكن الحملة البريطانية الثانية مثلا من تدمير كافة سفن القواسم إذ عندما علم القواسم باقتراب الحملة قاموا باخفاء العديد من سفنهم في اخوار عميقة غرب رأس مسندم.
أما عن هدف الحملة الخاص بإعادة بعض المواقع التي انتزعها القواسم من سلطان مسقط إليه فلم تعد بفائدة لانه على الرغم من عودة تلك المواقع إلى حوزته إلا أن تعاونه مع الحملة البريطانية جلب عداء السعوديين الذي ظل يعاني منه طويلا.
بعد الحملة الثانية ساد اعتقاد لدى رئاسة الشركة في بومباي بعجز القواسم عن القيام بأي نشاط جديد في البحر إلا أنه لم يمض وقت طويل حتى استعاد القواسم قوتهم واستانفوا نشاطهم البحري وازداد نشاط القواسم العسكري بدرجة كبيرة خاصة في عام 1815م عندما اصدر زعيمهم الشيخ حسن بن رحمه أوامره إلى وحداته البحرية في القضاء على كل ما يصادفها من سفن بريطانية وهندية الأمر الذي دفع الشركة البريطانية إلى تجهيز حملة عسكرية بحرية ثالثة ضد القواسم.
ــــــــــــ
إقرأ أيضاً
"ألمان داغي": المدافع العثمانية تتراجع... وصليب أوروبا يتقدم..