بوابة صيدا
لقرون، كانت دار الخلافة العباسية في بغداد تمثل القلب النابض للعالم الإسلامي، لكن مع حلول القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، بدأ هذا الصرح العظيم يعاني من وهن متزايد، لم يعد معه الخليفة سوى ظلٍّ باهت للسلطة التي كان يمتلكها أسلافه. في هذا الجو من الضعف والانحدار، برزت قوة جديدة من أطراف العالم الإسلامي، قادمة من جبال الديلم، لتملأ الفراغ وتعيد تشكيل مصير الخلافة.
لم تكن سيطرتهم عسكرية بحتة، بل كانت أبعد أثراً وأكثر دهاءً. لقد دخل بنو بويه بغداد حاملين ألقاب الخدمة والتأييد، لكنهم في الحقيقة كانوا يصنعون "قفص الوصاية" الذهبي الذي حبس داخله الخليفة، محولين إياه من حاكم مطلق إلى رمزٍ تُدار من خلفه لعبة السلطة الحقيقية.
نقدم هذه الأسطر تحليلاً لآلية صعود نفوذ بني بويه، وكيف استطاعوا تحييد سلطة الخليفة العباسي سياسياً وعسكرياً، بينما احتفظوا به كغطاء شرعي لحكمهم، في واحدة من أبرع عمليات الاستيلاء "الهادئ" على السلطة في التاريخ الإسلامي، وكيف انتهت دولتهم.. ومن قضى عليها..
قبل الحديث عن الحدث نفسه، من المهم فهم السياق الذي جعل هذا الحدث ممكناً:
كانت سلطة الخليفة العباسي في بغداد (في ذلك الوقت الخليفة المستكفي بالله) قد تآكلت بشكل كبير. لم يعد يسيطر إلا على العاصمة بغداد والمناطق المحيطة بها مباشرة، و كانت السلطة الفعلية في أيدي قادة عسكريين، أبرزهم أمير الأمراء في بغداد.
في هذه الأثناء، كانت أسرة شيعية إمامية من منطقة "ديلم" (جنوب بحر قزوين) تتصاعد قوتها بسرعة بقيادة الإخوة "علي بن بويه" (عماد الدولة) "الحسن بن بويه" (ركن الدولة) و "أحمد بن بويه" (معز الدولة) و أسسوا دولة مستقلة في فارس (إيران حالياً). وكان أحمد (معز الدولة) هو الأقرب إلى بغداد.
في عام 334 هـ، تحرك أحمد بن بويه (معز الدولة) من قاعدته في الأحواز على رأس جيشه نحو بغداد، فلم يواجه مقاومة تذكر في طريقه، و في 19 كانون الأول / ديسمبر 945م / (11 جمادى الأولى 334هـ) دخل معز الدولة البويهي مدينة بغداد مع جيشه، و لم تحدث أي معركة. كان الدخول سلمياً بشكل رسمي.
توجه معز الدولة إلى دار الخلافة وقابل الخليفة "المستكفي بالله"، وأظهر الاحترام الظاهري للخليفة، وقبّل الأرض بين يديه، مؤكداً على أنه جاء لخدمة الخلافة وحمايتها من الفوضى والاضطرابات.
منح الخليفة المستكفي - تحت "الطلب" - الأخوة البويهيين ألقاباً رسمية من دار الخلافة:
أحمد بن بويه: أصبح لقبه "معز الدولة".
الحسن بن بويه: أصبح لقبه "ركن الدولة".
علي بن بويه: أصبح لقبه "عماد الدولة".
هذه الألقاب جعلت سلطتهم شرعية من الناحية الرسمية في نظر العالم الإسلامي.
أصبح معز الدولة هو الحاكم العسكري والسياسي الفعلي للخلافة، مسيطراً على الجيش والأموال والإدارة، و أصبحت العملة تُسك باسم الخليفة العباسي، ولكن يُذكر اسم معز الدولة عليها بشكل بارز، بل وأحياناً صُورت صورته عليها، وهي سابقة خطيرة.
وبعد تمكنهم من الحكم، أصبح البويهيون هم الذين يُعينون ويعزلون الخلفاء أنفسهم، لم يكن للخليفة أي سلطة حقيقية سوى السلطة الدينية والرمزية.
لم يمض وقت طويل حتى أدرك الخليفة المستكفي أنه مجرد دمية، فحاول التخلص من نفوذ البويهيين بالتواصل سراً مع منافسيهم، وعندما اكتشف معز الدولة ذلك، اتخذ إجراءً حاسماً:
في عام 334 هـ / 946 م، أي بعد أقل من عام من دخوله بغداد، قام معز الدولة بعزل الخليفة المستكفي بالله، و قام بفقء عيني المستكفي (جعله أعمى) لأن شرط من شروط الخلافة أن يكون الخليفة سليم الحواس.
عين بدلاً منه الخليفة "المطيع لله" الذي كان أكثر طاعةً للبويهيين كما يشير لقبه.
تم القضاء على دولة البويهيين في العراق (وفي بغداد تحديدًا) على يد القوة الصاعدة الجديدة في ذلك الوقت الدولة السلجوقية التركية السنية.
قبل وصول السلاجقة، كانت الدولة البويهية تعاني من مشاكل داخلية شديدة جعلتها فريسة سهلة، فقد دب النزاع بين أمراء البيت البويهي نفسه على السلطة والمناطق، مما أفقد الدولة وحدتها وقوتها.
و كان السلاجقة قبائل تركية من آسيا الوسطى، اعتنقت الإسلام على المذهب السني، و بقيادة الزعيم "طغرل بك"، بدأوا في التوسع من منطقة خراسان (في إيران وأفغانستان حالياً) نحو الغرب.
كان تقدم السلاجقة يحمل شعارًا "دعم الخلافة العباسية" وتحريرها من سيطرة البويهيين الشيعة، مما منحهم شرعية دينية وشعبية كبيرة.
حاول آخر الأمراء البويهيين الأقوياء في العراق ، "أبو كاليجار المرزبان"، في عام 441 هـ / 1050م وقف تقدم السلاجقة، فالتقى الجيشان في معركة حاسمة "معركة السهب" (السهوب) قرب الكوفة، و انتهت بهزيمة ساحقة للبويهيين، و كانت هذه الهزيمة هي بداية النهاية لدولتهم، حيث فتحت الطريق أمام طغرل بك للتوجه مباشرة نحو بغداد.
بعد هزيمة البويهيين العسكرية، تقدم طغرل بك بجيشه نحو بغداد دون عائق يذكر، و دخل بغداد في ذي القعدة 447 هـ / كانون الأول ـ ديسمبر 1055م. مثل دخول البويهيين قبل أكثر من قرن، لم يحدث قتال داخل المدينة، واستقبله الخليفة العباسي "القائم بأمر الله" استقبالًا حافلاً، وأقر له بالسيطرة والسلطة.
قام طغرل بك بـ إلغاء منصب "أمير الأمراء" البويهي، و إنهاء السيطرة البويهية على دار الخلافة ومقدرات الدولة، و أبقى على آخر أمير بويهي في العراق (الملك الرحيم) كسجين لديه لبعض الوقت، قبل أن يقضي عليه نهائيًا لاحقًا.
ـــــــــــــ
إقرأ أيضاً