بوابة صيدا
في قلب العاصمة الجزائرية، حيث تتشابك أزقة القصبة العتيقة برائحة التاريخ، يقف جامع كتشاوة شاهداً صامتاً على أحد أكثر الفصول دموية ومرارة في تاريخ الاستعمار الفرنسي للجزائر.
لم تكن مجرد عملية تحويل ديني لمسجد إلى كنيسة، بل كانت عملية إرهاب منهجي هدف إلى طمس الهوية واقتلاع الروح من جسد الأمة.
ففي كانون الأول / ديسمبر 1830م، لم تكن الدماء التي سالت بين أروقته ومصلياته سوى البداية لمأساة إنسانية وثقافية امتدت لـ 132 عاماً، جسدت بوحشية مقصودة سياسة "محو الذاكرة" التي انتهجها المستعمر.
هذه ليست قبة حجرية غُيّر شكلها، بل هي قصة مقاومة، واستشهاد، وكرامة شعب رفض أن تُمحى هويته، لتظل "مذبحة كتشاوة" علامة فارقة في صراع الوجود، وليست مجرد حدث تاريخي انتهى.
جامع كتشاوة من أشهر المساجد التاريخية، يقع الجامع في مدينة الجزائر العاصمة، عند سفح القصبة (المدينة العتيقة) المصنفة تراثًا عالميًا من قبل اليونسكو.
بُني المسجد في العهد العثماني في الجزائر، تحديدًا خلال عهد البايلر باي "حسن باشا" سنة 1612م. كانت تسمى المنطقة سابقًا "سوق الماعز"، ومن هنا اشتُق اسم "كتشاوة" (من الكلمة التركية "Keçi" وتعني الماعز).
لم يكن كتشاوة مجرد مسجد للصلاة، بل كان مركزًا دينيًا وعلميًا واجتماعيًا مرموقًا. كان يُدرّس فيه العلوم الدينية واللغوية، وكان أحد أهم معالم العاصمة.
بعد احتلال الجزائر العاصمة في 5 تموز / يوليو 1830م (14 محرم 1246هـ) بدأت السلطات الفرنسية في سياسة منهجية لمحو الهوية الإسلامية والثقافية للجزائر وتكريس هيمنتها. وكانت المعالم الدينية من أبرز الأهداف.
في 18 كانون الأول / ديسمبر 1830م (3 رجب 1246هـ)، أي بعد أشهر قليلة من الاحتلال، أصدر القائد الفرنسي "الجنرال دي بورمن" قرارًا رسميًا بتحويل جامع كتشاوة إلى كنيسة كاثوليكية تحت اسم "كنيسة سانت فيليب"، تيمنًا بالملك الفرنسي لويس فيليب.
لم يكن القرار عشوائيًا، فاختيار أحد أهم وأشهر مساجد العاصمة كان رسالة واضحة بأن فرنسا جاءت لتمحو دين وثقافة البلاد وتستبدلها بدين وثقافة المستعمر.
كانت عملية التحويل عنيفة ومدمرة للمعالم الإسلامية للمسجد:
فقد تم إفراغ المسجد من جميع محتوياته الإسلامية، بما في ذلك المصاحف والكتب والسجاد والتحف، وإحراقها عن آخرها، فكان منظرا أشبه بمنظر إحراق هولاكو للكتب في بغداد عندما اجتاحها.
كما قام الجنود الفرنسيون بإزالة الشهادتين من فوق المحراب، وطمس النقوش والزخارف العربية والإسلامية.
كما تم انتهاك حرمة المقابر التي كانت موجودة في فناء المسجد وساحاته، حيث دُفن العديد من الشخصيات البارزة.
تُشير العديد من المصادر التاريخية الجزائرية وبعض التقارير الأجنبية إلى أن القوات الفرنسية ارتكبت مذبحة بحق المصلين الذين احتجزوا أنفسهم داخل المسجد كعملية احتجاجية لصد عملية التحويل.
و وفقًا لهذه الروايات، قامت القوات الفرنسية بمحاصرة المسجد ثم اقتحمته، وأطلقت النار على المصلين العزّل الذين رفضوا تسليمه، مما أدى إلى مقتل العشرات منهم داخل ساحات المسجد ومصلياته.
لم يقتصر الأمر على ما حدث داخل المسجد، فقد شهدت الساحات المحيطة بالمسجد والمدينة عمليات قمع عنيفة.
فقد قامت القوات الفرنسية بإعدام عدد من الشخصيات الدينية والمقاومين الذين قادوا أو شاركوا في الاحتجاجات ضد تحويل المسجد.
وكانت أي محاولة من سكان العاصمة للدفاع عن مسجدهم أو الاعتراض على تدنيسه كانت تواجه بعنف شديد من قبل الجيش الفرنسي، مما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى من الجزائريين.
وأصر الجنرال روفيغو رغم سقوط عدد كبير من القتلى على تحويله إلى كنيسة، وكان يقول: «يلزمني أجمل مسجد في المدينة لنجعل منه معبد إله المسيحيين»
في 24 كانون الأول / ديسمبر 1832م (2 شعبان 1248هـ)، تم افتتاح المبنى رسميًا ككنيسة كاثوليكية بعد إجراء تعديلات معمارية كبيرة لملائمتها للطقوس المسيحية، مثل إضافة مذبح وصليب وأجراس.
في عام 1855م قامت سلطات الاحتلال الفرنسي، بنقل كل ما تواجد في المسجد من أثار إسلامية تدل على عظمة الثقافة الإسلامية، واستبدلت ما سرقته بنقوش أخرى مسيحية تعكس الواقع الثقافي الديني الفرنسي.
ومن جملة الزخارف والنقوش التي كانت مكتوبة آيات قرآنية، التي أبدعته يد الخطاط إبراهيم جاكرهي أثناء إنشاء المسجد في العهد العثماني.
مع حصول الجزائر على استقلالها في 5 تموز / يوليو 1962م (4 صفر 1382هـ)، بدأ إعادة ترميم المسجد، في 4 جمادى الآخرة 1382 هـ / 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1962م، تم إقامة صلاة الجمعة فيه وكان خطيبها العالم الجزائري الشهير البشير الإبراهيمي وكانت هذه هي الجمعة الأولى التي تقام في ذلك المسجد بعد مائة و ثلاثين عام من تحويل الاحتلال الفرنسي هذا المسجد إلى كنيسة.
قصة جامع كتشاوة هي قصة مصغرة لتاريخ الجزائر تحت الاستعمار الفرنسي. فهي تجسد سياسة "التنصير والإبادة الثقافية" التي انتهجتها فرنسا ضد الدول الإسلامية التي استعمرتها..
وأيضاً، إن تحويل جامع كتشاوة إلى كنيسة كان "حدثًا دمويًا" وليس مجرد تحويل ديني سلمي، حيث تم استخدام القوة المفرطة لفرض الإرادة الاستعمارية على مشاعر ومعتقدات السكان، مما جعله جرحًا غائرًا في الذاكرة الوطنية الجزائرية.
ـــــــــــــ
إقرأ ايضاً
أزمة الرهائن الأمريكان في إيران
انصار القسام يغتالون الحاكم البريطاني لقضاء الجليل.. واشتعال الثورة الفلسطينية الثانية