بوابة صيدا
في عام 732م، وعلى سهول بلاد الغال قرب مدينتي تور وبواتييه الفرنسيتين، اصطدم جيش الدولة الأموية بقيادة عبد الرحمن الغافقي بجيوش الفرنجة بقيادة شارل مارتل، في واحدة من أكثر المعارك حساسية في تاريخ الصراع بين الإسلام وأوروبا المسيحية.
كانت بلاط الشهداء أكثر من مجرد مواجهة عسكرية، بل كانت لحظة فارقة في مسار الفتح الإسلامي، الذي امتد من الجزيرة العربية إلى قلب أوروبا الغربية.
دخل المسلمون المعركة بعد سلسلة انتصارات مدوية في جنوب فرنسا، وكانوا على مشارف باريس، لكن المعركة انتهت بانسحابهم، واستشهاد قائدهم، وتوقف الزحف الإسلامي شمالًا. ومنذ ذلك الحين، اعتُبرت بلاط الشهداء في الذاكرة الأوروبية نقطة إنقاذ للمسيحية الغربية، وفي الذاكرة الإسلامية محطة مؤلمة في مسار الفتوحات.
فما الذي حدث في تلك السهول؟ ولماذا تحوّلت المعركة إلى رمز حضاري أكثر منها حدث عسكري؟ وهل كانت الهزيمة حتمية... أم نتيجة أخطاء داخلية؟
بعد فتح الأندلس (شبه الجزيرة الإيبيرية) سنة 711م، واصل المسلمون غزواتهم شمالًا نحو ما يُعرف اليوم بفرنسا، بهدف نشر الإسلام وتوسيع رقعة الدولة.
كانت منطقة غالية (فرنسا) تعاني من انقسامات داخلية بين أمراء الفرنجة، مما شجع على القيام بهذه الغزوات.
في البداية، كانت الحملات شمال جبال البرانس (سلسلة جبلية تقع جنوب غرب أوروبا، بين فرنسا وإسبانيا) عبارة عن غزوات استطلاعية لجمع الغنائم واختبار قوة الدفاعات هناك، وليست بالضرورة لفتح دائم.
عندما أصبح عبد الرحمن الغافقي والياً على الأندلس (730م)، كان قائدًا شجاعًا وعادلًا وطموحًا. قرر تنظيم حملة كبرى لتأمين الحدود الشمالية ولمواصلة الفتح.
حشد والي الأندلس عبد الرحمن الغافقي جيشاً يعد أكبر جيش أموي دخل الأندلس وغالية حتى ذلك الوقت. انطلق في البداية من سرقسطة (على ضفاف نهر إبرة وروافده في أسبانيا) نحو قطلونية (تقع في أقصى شمال شرق شبه الجزيرة الإيبيرية) وهو أقرب أقاليم الأندلس إلى بلاد الغال (بلاد الغال تشمل ما يُعرف اليوم بـ فرنسا وشمال إيطاليا وبلجيكا وسويسرا) فعمل على تقوية هذا الثغر والقضاء على الثوار فيه، ثم تحرك إلى سبتمانيا (في جنوب فرنسا) فعزز من وجود الحاميات فيها، وعاد بعدها إلى بنبلونة في شمالي أيبيريا، فانطلق منها وعبر ممر رونسفال في جبال المعابر (هو ممر جبلي ارتفاعه 1057م يقع في إسبانيا في جبال البرانس بالقرب من الحدود بين فرنسا وإسبانيا)، وكان هدفه أقطانيا (جنوب غرب فرنسا على ساحل المحيط الأطلسي) ، ومنها سار شمالاً ثم في الاتجاه الجنوبي الشرقي نحو آرل (جنوب فرنسا)، فأعاد فتحها وحصّن المسلمين فيها، ثم عاد إلى أقطانية.
كان أودو دوق أقطانيا قد جمع جيشًا قاتل به جيش الغافقي في معركة نهر الجارون، والتي انتصر فيها المسلمون، وسط خسائر كبيرة في الجيش الأقطاني. بعد هذه المعركة، افتتح الغافقي أقطانيا بالكامل، بما في ذلك مدينة بوردو عاصمتها (جنوب غرب فرنسا) ثم واصل الغافقي إلى بواتييه (وسط غرب فرنسا) فافتتحها، ثم تور الواقعة على نهر اللوار (وسط غرب فرنسا) وافتتحها أيضاً.
رأى بعض المؤرخين أن الغافقي لم يكن ينوي التقدم أكثر من ذلك، بل كان ينوي تحصين المدن المفتوحة وتقويتها لتصبح ثغراً للمسلمين، كما هي الحال في سبتمانيا، ولم يكن معه من الجند ما يكفي لفتح مدن أكثر، بعد مسيرته الطويلة في جنوب غالة وغربها، وقتاله في معركة نهر الجارون.
دفعت انتصارات المسلمين في غالة شارل مارتل للتحرك لمواجهة جيش المسلمين، خاصة بعد أن لجأ إليه منافسه أودو بمن بقي معه من رجاله، ليساعده على استعادة أقطانيا، فقبل شارل مساعدته على أن يكون ولاء أودو لدولة الفرنجة، فوافق أودو على ذلك.
جمع شارل مارتل، قائد الفرنجة وقائد البلاط الملكي (مايور دوموس)، جيشًا ضخمًا من مختلف أنحاء مملكته، كان جنوده مشهورين بالقتال الثقيل واعتمادهم على المشاة المدججين بالسلاح.
وصل عبد الرحمن إلى تور بمن تبقى من جيشه، بعد معاركه في أقطانيا وقطلونية وسبتمانيا و الحاميات التي خلفها وراءه.
في 10 تشرين الأول / أكتوبر 732م / (14 رمضان 114هـ) التقى الجيشان في سهل مفتوح بين بواتييه وتور يقع غرب رافد نهر اللوار.
استمرت المناوشات بين الفريقين لأيام، إلى أن لجأ المسلمون للهجوم في اليوم الأخير بفرسانهم على جيش شارل، الذي تحمله مشاة جيش الفرنجة، وبدا كما لو أن المسلمين اقتربوا من النصر. إلا أن شارل أرسل فرقًا يعتقد أنها كانت بقيادة أودو هاجمت معسكر المسلمين من الخلف مما دفع المسلمين لمحاولة إنقاذ معسكرهم.
حاول الغافقي ومن بقي من جنوده معه الثبات في القتال والسيطرة على الموقف بعد أن اضطربت صفوف المسلمين، وظل يقاتل حتى قُتل.
ثم نجح بقية جيش المسلمين في الدفاع عن معسكرهم حتى نهاية اليوم، وفي الليل، اجتمع قادة الجيش ورأوا أن ينسحبوا ليلاً بعد أن فقدوا قائدهم عبد الرحمن الغافقي.
وفي اليوم التالي، عندما وجد الفرنجة أن القتال لم يتجدد تخوفوا من أن يكون ذلك كمينًا، إلى أن استطلعت قواتهم مخيمات المسلمين التي تركوها وراءهم ووجدوها فارغة.
لم تتوقف غزوات المسلمين في بلاد الغال رغم الهزيمة في المعركة بل استمرت بعدها مباشرة، فأرسل الوالي الجديد عبد الملك بن قطن الفهري حملة يقودها يوسف بن عبد الرحمن الفهري الذي تحالف مع مورونتوس كونت بروفنس، غزت بلاد الغال واجتاحت آرل، ثم مدينة سانت ريمي (في جنوب فرنسا) وأفينيون (جنوب شرق فرنسا)، ثم تابع الوالي عقبة بن الحجاج السلولي تلك الغزوات فسيطر على بورغونية (وسط شرق فرنسا)، حتى بلغت حملته بيدمونت بشمال إيطاليا.
ثم انشغل ولاة الأندلس بمشاكلهم الداخلية وتكالبهم على السلطة، ففقدوا المناطق التي سيطروا عليها في بلاد الغال، الواحدة تلو الأخرى حتى لم يبق بأيديهم في عهد يوسف بن عبد الرحمن الفهري والي الأندلس الأخير سوى أربونة (شرق جنوب فرنسا تطل على البحر المتوسط) فقط، والتي سقطت نهائيًا عام 759م، عندما أمر عبد الرحمن الداخل بإجلاء المسلمين من المدينة.
ومن ناحية أخرى، أنشأ شارلمان حفيد شارل مارتل بعد ذلك الثغر الإسباني في البرانس لتكون بمثابة منطقة عازلة عن مناطق المسلمين خلف البرانس.
التسمية: سُميت "بلاط الشهداء" لأن كلمة "بلاط" في اللهجة الأندلسية تعني "القصر" أو "الساحة المُحاطة بمباني" (مشتقة من الكلمة اللاتينية Palatium)، وكان مكان المعركة قريبًا من قصر أو منطقة قصور. وسُميت بشهداء تكريمًا للجنود والقيادة الذين سقطوا فيها.
ويُطلق عليها معركة تور (بالإنجليزية) أو معركة بواتييه (بالفرنسية)
معركة بلاط الشهداء لم تكن مجرد مواجهة عسكرية، بل كانت صدامًا حضاريًا وسياسيًا بين الإسلام الصاعد وأوروبا المسيحية. ورغم الهزيمة، فإنها كشفت عن قوة المسلمين في التوغل العميق داخل أوروبا، وأظهرت أن التاريخ لا يُكتب فقط بالنصر، بل أيضًا بالجرأة والطموح.
و بالغ المؤرخون الأوروبيون لاحقًا في أهمية المعركة، واصفين إياها بأنها "المعركة التي أنقذت المسيحية وأوروبا" من الفتح الإسلامي. بينما يرى كثير من المؤرخين المعاصرين أنها كانت معركة كبرى وأوقفت التوسع، لكن الخطر على أوروبا لم يكن بالحجم الذي صورته الكتابات الرومانسية لاحقًا، خاصة أن الدولة الأموية كانت في أوج انشغالاتها بالمشاكل الداخلية والثورات في المشرق.
ــــــــــــ
إقرأ أيضاً
الجيش المصري يفتح مدينة عكا بعد حصار دام 6 أشهر.. ويهزم الجيش العثماني ويهدد عاصمة الخلافة
ـــــــــــــــــــــ
يمكنكم متابعة أخبار موقع بوابة صيدا على قناتي