نجم الهاشم ـ نداء الوطن
كان البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير يردّ على من يطالبون بإلغاء الطائفية السياسية بالقول إنّه يجب إلغاؤها من النفوس قبل إلغائها من النصوص. وهو كان مدركاً أبعاد هذه المطالبات لأنّه كان يعرف أنّها تحمل تهديداً مباشراً للحضور المسيحي في لبنان، وأنّه نوع من القصاص يمكن أن يُفرض عليهم للاقتصاص منهم ومن دورهم. كان هذا المطلب يظهر من وقت لآخر كفزاعة لتخويف المسيحيين من مسألة العدد، ولكنّه بات اليوم فزاعة مرعبة تتهدّد كل المكونات الطائفية في لبنان والمنطقة، بحيث يمكن أن يكون النظام التعددي هو الحل لمشاكل المنطقة.
اليوم بعد مئة عام على تقسيم منطقة الشرق الأوسط دولاً مستقلة وترسيم حدودها الملتبسة، ثمّة عودة إلى جذور المشكلة وإلى الحلول التي كانت مطروحة ولم تتحقّق. بعد مئة عام، مثلاً، تعود سوريا إلى المربع الأول عندما قسمتها سلطات الانتداب الفرنسي إلى أربع دول: دولة العلويين في اللاذقية وطرطوس، دولة الدروز في حوران والسويداء ودولتا حلب ودمشق. فرنسا كانت تفضّل أيضاً أن يبقى لبنان على حدود المتصرفية ولكنها نزلت عند رغبة البطريرك الياس الحويك بضم الأقضية الأربعة التي كونت مع المتصرفية حدود دولة لبنان الكبير، التي كانت بمثابة تثبيت حدود الكيانات الجديدة. ولكن التجربة أثبتت فشل الوحدة السورية كما فشل الوحدة اللبنانية.
كما في العراق، كذلك في سوريا، لم يكن صدام حسين وحافظ الأسد إلّا مجرد قائدين عابرين في منطقة لا يمكن أن تنصهر شعوبها وطوائفها بالقوة، لأن قوة الأديان والانتماء المذهبي واللجوء إلى الروايات التاريخية والموروثات الدينية بقيت أقوى من أي مظهر من مظاهر الوحدة والقومية.
لبنان لم يكن بعيداً عن هشيم الطائفية أيضاً. عندما كان هناك إيمان بأنّ العدالة السياسية مؤمّنة من خلال المشاركة الديمقراطية في السلطة، كانت هناك دولة. وعندما أراد البعض أن يهدم هذا الهيكل لم يكن يدري أنّه سينهار عليه وأنّه سيجد نفسه، بعد فوات الأوان، أمام مسألة تجديد العهد بالتأكيد على التعددية حتى من دون الوصول إلى فدرالية تنظم الحياة السياسية.
هكذا يتظهّر، مثلاً، مطلب تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية بشكل سيئ. بدل أن يكون تشكيل مثل هذه الهيئة مدخلاً إلى تخفيف الاحتقان الطائفي والمذهبي تصبح طريقة طرح الموضوع بمثابة ضخّ المزيد من التهديد والوعيد وتسعير الاحتقان.
الحدود المقدسة
لا شك في أن المسألة الطائفية والعرقية والقومية باتت طاغية اليوم من العراق إلى سوريا، إلى لبنان، وفلسطين واليمن والخليج العربي، إلى إيران وليبيا والجزائر والمغرب ومصر والسودان. صحيح أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يعلن، أنه يعمل على إعادة تشكيل الشرق الأوسط، ولكن هذا الشرق لم يكن ينتظر إسرائيل حتى يعيد تشكيل نفسه.
يتم تحميل مسؤولية تقسيم المنطقة إلى اتفاقية وزيري خارجية فرنسا وبريطانيا مارك سايكس وجورج بيكو بمصادقة روسيا عام 1916. ولكن هذه الاتفاقية لم ترسم حدود الدول بل حدود النفوذ الفرنسي والبريطاني في لبنان وسوريا وفلسطين والعراق.`والواقع أيضاً أنّه على رغم اتّهام "الاستعمار" بتقسيم المنطقة، فإنّه من غير المفهوم، مثلاً، كيف أنّ الدول العربية التي استقلّت تباعاً، حولت الحدود التي رسمها هذا الاستعمار إلى حدود مقدسة لم تعمل على إلغائها.
اليوم، بعد مئة عام، يبدو أن زمان الطائفية بات يطغى على كل زمان آخر. سنوات الحرب في سوريا فجرت المزيد من الأحقاد بين السنة والعلويين والأكراد. لو بقيت اللعبة محصورة في سوريا وحدها لكانت المسألة أسهل. ولكنّ مشاركة "حزب الله" وإيران في الحرب دفاعاً عن الأسد والنظام أشعل الهواجس المذهبية بين السنة والشيعة. ربّما لم يدرك كثيرون أبعاد إسقاط نظام صدام حسين في العراق بعد إسقاط حكم طالبان في أفغانستان. ولكن كان من الواضح أن كل المذاهب كانت بدأت حرب الوجود والدفاع عن الذات. قيام الجمهورية الإسلامية في إيران كان مجرّد بداية لمسلسل لا ينتهي.
الفرز المذهبي يتخطّى الحدود
عندما بدأ الصراع في سوريا، قاتل "حزب الله" دعماً للأسد، وساندت تنظيمات سنية التنظيمات السنية المعارضة التي هدّدت العراق أيضاً. ومع حركة نزوح السوريين إلى الدول المجاورة، بدأت عمليات الفرز الطائفي حتى في مناطق اللجوء، حيث لجأ كل منتمٍ إلى طائفة إلى من هم مثلهم. وعندما سقط نظام الأسد وجد العلويون، مثلاً، أنفسهم متروكين بلا حماية وغادر الشيعة مناطقهم إلى الهرمل وبعلبك. وعندما حصلت حوادث طرطوس واللاذقية الأخيرة فر العلويون إلى مناطق العلويين في لبنان، وكادت تنتقل شرارة الحروب إلى طرابلس وباب التبانة وجبل محسن.
في حمأة هذه المواجهات التي يتعزز فيها زمان الطائفية، يأتي من يريد أن يتمظهر بالديمقراطية والعلمانية، ليطرح موضوع تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية في لبنان، تطبيقاً للطائف. وكأنّ هذا الطائف طُبِّق كما يجب منذ العام 1989 ولم يقضِ عليه النظام السوري حتى العام 2005، قبل أن يتسلّم "حزب الله" هذه المهمة.
وفي الإصرار على السير عكس التيار، تتسرّب معلومات عن أن المعاون السياسي للرئيس نبيه بري، النائب علي حسن خليل، سيتقدّم باقتراح قانون عاجل إلى مجلس النواب، يطلب الشروع في خطوات عملية من أجل تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، والشروع في الخطوات التطبيقية لإقامة مجلس للشيوخ، والاستعداد للانتقال في أسرع وقت إلى إلغاء الطائفية من جميع الوظائف الرسمية وفي كل الفئات، تمهيداً للوصول إلى انتخابات شاملة خارج القيد الطائفي، والعمل على تخفيض سن الاقتراع إلى 18 سنة، بما يسمح للشباب بالمشاركة في تشكيل السلطة التشريعية التي تنبثق عنها كل السلطات الأخرى.
في كل محطّة يطغى فيها منطق تطبيق القانون والمؤسسات واحترام التعدديّة في لبنان، انطلاقاً من احترام المناصفة في الحكم اللبناني المركزي، تخرج إلى العلن محاولات من هذا النوع لخلق سجالات تهدف إلى حرف الأنظار عن قضية السلاح غير الشرعيّ، الذي كان يجب ان يحسم منذ عام 1990 قبل انتظارات الحروب الخاسرة والرهانات الكارثية والقرارات الدولية. وأمام هذا "الموّال" القديم الجديد، هناك طروحات أخرى في لبنان تستحق التوقف عندها وقد تكون مكمّلة لعناوين إلغاء الطائفية السياسية. من بين هذه الطروحات الجديّة، اللامركزيّة الموسعة التي يناصرها ويطالب بها رأي عام عريض في لبنان، من سياسيين ومفكرين وقادة رأي ووزراء ونواب، منهم النائب وليد البعريني.
لذلك فإن المطالبين بإلغاء الطائفية السياسية لا بد لهم من دراسة دمجها مع اللامركزيّة السياسية والمالية والإدارية، التي تصل إلى حدود الفدراليّة، والتي أصبحت مطلباً عابراً للطوائف وللدول في المنطقة لتكون هي الحل.
في زمان الطائفية لا بد من تنظيم التعددية. بحيث يمكن أن تكون الطائفية السياسية، اليوم وغداً، حلّاً ومطلباً ملحاً لمن يطالبون بإلغائها على ضوء تثبيت عدالة التمثيل والاستقرار وقبول الآخر، بدل الذبح والحرب والتدمير.