بوابة صيدا
في السابع من تشرين الأول / أكتوبر عام 1571م (17 جمادى الأولى 979هـ) توقّف البحر المتوسط عن كونه مجرد ساحة للتجارة والملاحة، ليتحوّل إلى مسرح لصراع دموي سيُخلّد في كتب التاريخ باسم "موقعة ليبانتو".
هناك، على مياه خليج باتراس باليونان، تواجهت أقوى أساطيل ذلك العصر: أسطول الدولة العثمانية، رمز التوسع والقوة الإسلامية، في مواجهة أسطول "الحلف المقدس" الذي جمع تحت رايته إسبانيا، الفاتيكان، البندقية، وجنوة دفاعًا عن أوروبا الكاثوليكية.
كانت المعركة أكثر من مجرد اشتباك عسكري؛ لقد حملت أبعادًا دينية وحضارية جعلتها تُعرف بـ"المواجهة الفاصلة بين الهلال والصليب". وبقدر ما حملت من دماء وخسائر، فقد حملت أيضًا رمزية هائلة رسمت ملامح الصراع على المتوسط لعقود طويلة لاحقة.
كانت الدولة العثمانية عند وفاة السلطان سليمان القانوني قد بلغت أقصى اتساعها وخاضت الحروب في ميادين الشرق والغرب وحققت لها هيبة كبيرة في العالم..
وكان العثمانيون يركزون اهتمامهم على فتح جزيرة قبرص التي كانت عقبة كبيرة في طريق التجارة المنتعشة بين مصر واسطنبول والتي يسيطر عليها البنادقة ويمارسون من خلالها بعض أعمال القرصنة البحرية، ولذا شرع العثمانيون في فتحها رغم إدراكهم أن فتح هذه الجزيرة سوف يؤدي إلى قيام تحالف مسيحي قوي ضدهم.
بعد نجاح العثمانيين في فتح جزيرة قبرص عام 1570م، شعر الأوروبيون، خاصة جمهورية البندقية، بأن التوسع العثماني بات يهدد مصالحهم التجارية والأمنية.
تحرك البابا بيوس الخامس وعقد معاهدة اتفاق (الحلف المقدّس) ضد الدولة العثمانية في 25 أيار / مايو 1571م (21 ذو الحجة 978هـ) مع البندقية، و إسبانيا وممالكها مثل صقلية ونابولي، دولة البابا، جنوى، و دوقات إيطالية مثل توسكانا، ساڤوي، و جنود من الممالك المسيحية الأخرى. وكان هذا الاتفاق المسيحي هو الاتفاق الثالث عشر الذي تعقده أوروبا ضد الدولة العثمانية منذ تأسيسها.
ونص الكتاب الذي أرسله البابا بيوس إلى ملك أسبانيا على "أنه لا توجد في العالم المسيحي أية دولة مسيحية يمكنها أن تقف بمفردها في مواجهة الدولة العثمانية ولذا فالواجب على كافة الدول المسيحية أن تتحد لكسر الغرور التركي"، وهكذا بدأ يتشكل الائتلاف المسيحي لحرب الدولة العثمانية.
كان التحالف المسيحي القوي الذي تغذية مشاعر الكراهية للدولة العثمانية يتمتع بأسطول على قدر كبير من القوة والخبرة في القتال البحري والكثافة في عدد السفن ووجود عدد من كبار قادة البحر، فكان الأرمادا (الأسطول) يضم 295 سفينة و30 ألف جندي و16 ألف جداف و208 سفن حربية، وكان القائد العام للأسطول هو "دون خوان" وهو ابن غير شرعي للإمبراطور الأسباني كارلوس الثاني وهو من كبار قادة البحر.
أما الأسطول العثماني في البحر المتوسط فكان يمتلك 250 سفينة، تحت قيادة مؤذنزاده علي باشا..
التقى الأسطولان في خليج باتراس قرب مدينة ليبانتو، في 7 تشرين الأول / أكتوبر 1571م (17 جمادى الأولى 979هـ) كان القتال شرسًا بالسيوف والحراب بعد التصادم، مع استخدام المدافع على متن السفن. وبرزت تكتيكات الحلف المقدس باستخدام المدافع الثقيلة على مقدمة السفن، وهو ما أعطاهم تفوقًا ناريًا على العثمانيين.
استمرت المعركة حوالي خمس ساعات، ورغم قوة الأسطول العثماني، نجح الحلف المقدس في إلحاق هزيمة ساحقة بالأسطول العثماني.. و استشهد قائد القوة البحرية مؤذنزاده علي باشا وابنه مع بداية المعركة كما أسر ابنه الثاني، وغرقت سفينة القيادة في الأسطول العثماني..
كانت الخسائر في تلك المعركة ضخمة للغاية لكلا الطرفين فقد خسر العثمانيون 142 سفينة بين غارقة وجانحة وأسر الصليبيون 60 سفينة عثمانية، واستولوا كذلك على 117 مدفعا كبيرا، و256 مدفعا صغيرا، كما تم تخليص 12 ألف جداف مسيحي كانوا في الأسر، وسقط من العثمانيين حوالي 20 ألف بين قتيل وأسير، وحاز الصليبيون على راية مؤذنزاده علي باشا الحريرية المطرزة بالذهب، وقد أعادها بابا روما إلى تركيا سنة (1385هـ / 1965م) كتعبير عن الصداقة بين الجانبين.
وقتل من الصليبيين حوالي 8 آلاف وسقط 20 ألف جريح، و وقع عدد كبير من الأسرى بيد العثمانيين، وأصيب عدد من السفن المسيحية، وكان من بين الأسرى المسيحيين ميغيل دي ثيربانتس الذي فقد ذراعه الأيسر وعاش أسيرا في الجزائر وألف روايته المشهورة دون كيشوت.
أما القائد البحري العثماني " أولوج علي باشا" الذي كان يقود الجناح الأيمن فإنه لم يخسر أيا من سفنه البالغة 42 سفينة واستطاع أن يقضي على الأسطول المالطي بالكامل الذي يتكون من ست سفن واغتنم رايته، وعندما رأى أن الهزيمة تقع بالأسطول العثماني وأن تدخله لإنقاذه هو انتحار مؤكد، رأى أن من الحكمة الابتعاد عن الميدان حفاظا على بقية الأسطول والاستعداد لمعركة قادمة.
والواقع أن خسائر العثمانيين المعنوية كانت أشد فداحة من خسائرهم المادية، حيث كانت تلك المعركة الكبيرة ذات مردود سلبي في علاقة الدولة العثمانية بالأوربيين فزال من نفوس الأوربيين أن الدولة العثمانية دولة لا تقهر، وهو ما شجع التحالفات الأوربية ضدها بعد ذلك، وظهرت المراهنات على هزيمتها.
ومن المفارقة أنه بينما كانت البندقية وغيرها من الدول التي شاركت في معركة ليبانتو يشربون كؤوس الانتصار وينحتون التماثيل تخليدا لذلك الانتصار الكبير، كان العثمانيون يعملون على قدم وساق في بناء أسطولهم الجديد، حتى إن السلطان العثماني سليم الثاني خصص جزءا من حديقته الخاصة لإنشاء مصنع لبناء 8 سفن جديدة، واستطاع العثمانيون خلال الشتاء الذي أعقب المعركة أن يشيدوا ما يقرب من 153 سفينة حربية.
ولم ينس العثمانيون تقوية الروح المعنوية لشعبهم، وتذكيرهم بأن خسارة معركة لا تعني بحال من الأحوال خسارة الصراع، ولذا قام أولوج علي باشا القائد البحري بالدخول إلى إسطنبول بعد الهزيمة بحوالي شهرين في أسطول كبير مكون من 87 سفينة وتمت ترقيته إلى قائد القوات البحرية.
ولم يلبث أولوج علي باشا أن غادر إسطنبول مع 245 سفينة في حزيران/يونيو 1572م للدفاع عن قبرص بعدما علم أن الأسطول الصليبي يسعى للاستيلاء عليها، وعندما رأى دون جون الأسطول العثماني متجها نحوه أدرك أنه ليس في استطاعته مقاتلته بعدما تمكن العثمانيون من تعويض خسائرهم.
أما البابا بيوس الخامس فكتب إلى الشاه إسماعيل الصفوي في إيران وإلى إمام اليمن يطلب منهما التحالف لقتال الدولة العثمانية.
ولم تنس الدولة العثمانية القصاص لهزيمتها في ليبانتو فعقدت معاهدة مع البندقية في 7 آذار/مارس 1573م تكونت من سبعة بنود، منها: أن تسدد البندقية إلى الدولة العثمانية 300 ألف ليرة ذهبية كغرامة حرب، وأن تعترف بالسيادة العثمانية على قبرص، وبعد أقل من عام قامت 220 سفينة عثمانية بتدمير سواحل إيطاليا الجنوبية.
لم تكن ليبانتو مجرد معركة بحرية، بل كانت مرآة لصراع حضاري طويل بين الشرق والغرب، بين الإمبراطورية العثمانية التي سعت لترسيخ نفوذها في المتوسط، وتحالف أوروبي أراد صدّ التمدد الإسلامي. ورغم أن العثمانيين أعادوا بناء أسطولهم سريعًا، فإن رمزية الهزيمة في ليبانتو بقيت حاضرة في الذاكرة الأوروبية، تُستحضر في الأدبيات والفنون كعلامة على انتصار الصليب على الهلال.
أما في التاريخ البحري، فقد مثّلت ليبانتو نهاية عصر المجاديف وبداية التحوّل نحو التكتيك الحديث، لكنها أيضًا كانت تذكيرًا بأن البحر لا يُحكم بالقوة وحدها، بل بالتخطيط، والتحالف، والوعي بالتاريخ.
في مياه ليبانتو، لم تُحسم فقط معركة... بل كُتب فصلٌ جديد من فصول التوازن بين الإمبراطوريات، على صفحةٍ من نار ومجد.
ــــــــــــــ
إقرأ ايضاً
محاولة اغتيال علي الخامنئي أثناء إلقاء محاضرة في مسجد أبو ذر في طهران..
وفاة الزعيم المصري سعد زغلول.. الذي استُقبِل بعد عودته من المنفى بخلع الحجاب ودوسه بالأقدام