بوابة صيدا
شهدت مدينة “كليرومونت” الفرنسية حدثًا خطيرًا في (26 من ذي القعدة 488هـ / 27 من نوفمبر / تشرين الثاني 1095م) كان نقطة البداية للحروب الصليبية؛ حيث وقف البابا “أوربان الثاني” في جمع حاشد من الناس يدعو أمراء أوروبا إلى شنّ حرب مقدسة من أجل المسيح، وخاطب الحاضرين بلغة مؤثرة تكسوها الحماسة ودعاهم إلى تخليص الأرض المقدسة من سيطرة المسلمين، ونجدة إخوانهم في الشرق، ودعا المسيحيين في غرب أوروبا إلى ترك الحروب والمشاحنات، وتوحيد جهودهم إلى قتال المسلمين في الشرق.
وكي يُقبل الناس على الاشتراك في هذه الحروب وعدهم البابا بمنح الغفران لكل من يشترك في هذه الحرب، وتعهد بأن الكنيسة ستبسط حمايتها على أسر المحاربين وأمتعتهم؛ فلا تتعرض زوجاتهم أو أطفالهم أو أملاكهم لأية أخطار، وقد لقيت خطبة “أوربان” الحماسية بما انطوت عليه من امتيازات ومكاسب دينية ودنيوية – استجابة هائلة على الفور من الحاضرين، وأيقظت في نفوسهم روح المغامرة والكسب؛ فصاحوا جميعًا صيحة مدوية هزت أرجاء الفضاء قائلين: “هذه مشيئة الله”، وكانت هذه الصيحة المشئومة إيذانا بفتح أول صفحة في كتاب “الحروب الصليبية”، وبداية صراع دام عدة قرون.
أول متطوع في الحروب الصليبية
ولم يكد البابا “أوربان الثاني” يفرغ من خطبته التي دعا فيها إلى محاربة المسلمين حتى جثا “أدهمار” أسقف بوي أمام قدمي البابا، راجيًا أن يكون له شرف المساهمة في تلك الحرب المقدسة، وبذلك افتتح هذا الأسقف قائمة المتطوعين التي لم تتوقف بعد ذلك، واختاره البابا ليكون مندوبًا عنه يقود الصليبيين في رحلتهم إلى المشرق، إشارة بأن تلك الحروب إنما تتم تحت إشراف الكنيسة وهيمنتها.
وأمر البابا رجال الكنيسة الذين كانوا يحضرون خطبته أن يعودوا إلى بلادهم، ويبشروا بالحروب الصليبية، وعهد إلى أحد رؤساء الأديرة بأن يدعو إلى الحرب في “نورمانديا” و”إنجلترا”، وبعث بأسقفين إلى “جنوة” لإثارة حماس أهلها، وحدد البابا الخامس عشر من أغسطس / آب من سنة 1096م (وهو يوافق 21 من شعبان 488) موعدًا لرحيل الحملة إلى الشرق؛ حيث تكون المحاصيل قد جُمعت، ويكون التجمع واللقاء في مدينة القسطنطينية الحصينة.
ولم تلبث دعوة البابا أن لقيت رواجًا وانتشارًا في أوروبا، وتأثر بها العامة والدهماء، وراودتهم أحلامهم في حياة ينعمون فيها بالرخاء في الشرق، متأثرين بما يروجه رجال الكنيسة، وسرعان ما تكونت حركة شعبية ارتبطت باسم “بطرس الناسك”.
بطرس الناسك
يذكر المؤرخون أن بطرس الناسك كان رجلا قصير القامة، أسمر اللون، يمشى حافي القدمين، مرتديا ملابس رثة، وكان راهبًا هجر الدير بتكليف من البابا؛ لكي يقوم بالدعوة إلى الحملة الصليبية، فطاف بمختلف أقاليم فرنسا بهيئته المزرية داعيا إلى حملة البابا، وفي كل مكان يحل به كان يسحر ألباب الناس، ويخلب أفئدتهم ببيانه الساحر وفصاحته حتى تجمع حوله أعداد هائلة من الأتباع، بلغوا خمسة عشر ألفًا، منهم فلاحون وأهل مدن، وفئات من صغار النبلاء، وبعض المجرمين وقطاع الطرق، ولم يكن يجمع هؤلاء الشراذم إلا الحماسة والرغبة في قتال المسلمين، والاستيلاء على الأرض.
لم تصبر هذه الجموع الغوغاء حتى موعد الرحيل الذي حدده البابا للحملة، ولم تفلح محاولات البابا في إثنائهم عن الرحيل، ولم تجد دعوته استجابة من هؤلاء الغوغاء، ولم تستطع اللوائح التي وضعها “أوربان” علاج الموقف.
وتحركت هذه الجموع تحمل محاصيلهم فوق عربات ثقيلة تجرها الثيران، وفي صحبتهم الزوجات والأطفال، حتى وصلوا “كولونيا” في (15 من ربيع الآخر 489هـ / 12 من إبريل / نيسان 1096م)، وظلوا بها فترة من الوقت يتزودون بالمؤن، ويتقوون بانضمام الألمان إليهم حتى تضاعف عددهم.
والتر المفلس
وفي الوقت الذي كان فيه بطرس الناسك ماضيا في دعوته في الغرب الأوروبي ظهر زعيم آخر من زعماء العامة اسمه “والتر المفلس”، التف حوله بعض الناس، وعبر بهم أرض “هنغاريا” ثم أراضي الدولة البيزنطية، وطوال الطريق كانوا ينهبون ويسلبون ويعتدون على الأهالي حتى بلغوا القسطنطينية في (رمضان 489هـ / يوليو / تموز 1096) وسمح لهم الإمبراطور البيزنطي ألكسويس كوفين بالانتظار خارج أسوار العاصمة حتى وصول “بطرس الناسك”.
الطريق إلى القسطنطينية
غادر بطرس الناسك “كولونيا” في (23 من ربيع الآخر 489هـ / 2 من إبريل / نيسان 1096م) متجها إلى المجر، على رأس حشوده الجرارة من الغوغاء والدهماء، وأثناء عبورهم المجر عند بلدة “سملين”، وقع خلاف بين المجر وجنود الحملة بسبب الحصول على المؤن، وتطور الخلاف إلى مذبحة ارتكبها الصليبيون أسفرت عن مقتل أربعة آلاف من أهل المجر الأبرياء، وتحولت “سملين” إلى خرائب تتصاعد منها دخان الحرائق التي أشعلها جنود الرب، ضد إخوانهم المسيحيين الذين زعم الصليبيون أنهم جاءوا لنجدتهم.
وعندما وصل “بطرس الناسك” الذي كان يمتطي حماره في مقدمة جيشه إلى مدينة “نيش” التي تقع على الحدود البيزنطية خاف قائد الحامية البيزنطية على مدينته من التصرفات الحمقاء لهذه الجموع، فاتخذ تدابير لمواجهتهم عند الضرورة بأخذ بعض الرهائن منهم، لكن الصليبيين عاودوا أعمال السلب والنهب وتخريب القرى والمدن، ولم يجد البيزنطيون بُدًّا من مهاجمة بطرس الناسك، وقتل كثير من رجاله، وأسر عدد آخر، والاستيلاء على الأموال والتبرعات التي كان الراهب قد جمعها من أغنياء غرب أوروبا، لكن ذلك لم يؤثر في مسيرة الجيش الصليبي، وسار صوب مدينة “صوفيا”، وهناك لقيه مندوبون عن الإمبراطور البيزنطي، وأبلغوا “بطرس” ومن معه باستياء الإمبراطور، وبأوامره التي تقضي بألا يمكث الصليبيون في أي مدينة بيزنطية أكثر من ثلاثة أيام.
على أسوار القسطنطينية
وصلت الشراذم المتبقية من حملة بطرس الناسك إلى أسوار القسطنطينية في (شعبان 489هـ يوليو / تموز 1096م)، وأرسل الإمبراطور البيزنطي في طلب بطرس الناسك، وعرض عليه أن ينتظر بقواته خارج المدينة حتى تأتي القوات الصليبية الرئيسية في الموعد الذي حدده البابا لتجمع القوات الصليبية، لكن بطرس رفض عرض الإمبراطور ونصائحه التي أسداها إليه، وأغرته كثرة أتباعه وأنصاره.
وواصل الصليبيون أعمالهم الهمجية في القسطنطينية، وارتكبوا كثيرًا من المخازي، ومارسوا السلب والنهب، واضطر الإمبراطور البيزنطي أن يتخلص من هذا الشر المستطير بنقلهم بسرعة عبر المضايق إلى آسيا الصغرى، وفي الوقت نفسه كرر نصائحه للصليبيين بالتروي والانتظار عند أحد المراكز الحصينة بالقرب من “البسفور”، حتى تأتيهم الإمدادات والجيوش النظامية المدربة من الغرب، لكنهم لم ينصتوا إلى نصائحه، ولم يستطيعوا ضبط أنفسهم، والكف عن السلب والنهب، والاعتداء على المزارع والضياع والقرى والكنائس القريبة.
نهاية محتومة
أخذ الصليبيون يوسعون دائرة أعمالهم الهمجية، وواصلوا زحفهم إلى “نيقية” قاعدة السلطان السلجوقي “قلج بن أرسلان”، وكان عدد الصليبيين خمسة وعشرين ألفا، منهم خمسمائة من الفرسان - على أكثر تقدير -، والباقون من المشاة المعدمين الذين لا يربطهم نظام، ولا توحد صفوفهم قيادة مؤهلة، ولم يجد الأتراك السلاجقة صعوبة في الإيقاع بهذا الجيش الهمجي والإجهاز عليه تمامًا، حتى إنه لم ينج من ذلك الجمع الحاشد من الصليبيين سوى ثلاثة آلاف، وعندما وصلت أنباء هذه الهزيمة إلى الإمبراطور أرسل بعض سفنه تحمل إمدادات إلى الصليبيين، لكن ذلك كان بعد فوات الأوان، فحملت فلولهم إلى القسطنطينية وظلوا في رعاية الإمبراطور حتى وصول الحملة الرئيسية التي شاءت لها الأقدار أن تؤسس الإمارات الصليبية في الشرق، وتستولي على بيت المقدس.
وهكذا انتهت حملة الرعاع فوق تراب الشرق، وضاع الحلم الذي راودهم، وحرك فيهم مشاعر الطمع والاستمتاع بخيرات الأرض التي تفيض باللبن والعسل.. لكن الهزيمة لم تمنع من تكرار المحاولة، وبدأت سلسلة الحملات الصليبية على الشرق الإسلامي.
(المصدر: بوابة صيدا + مواقع التواصل الاجتماعي)
ــــــــــــــــ
بوابة صيدا