بقلم د. وسيم وني - عضو نقابة الصحفيين الفلسطينيين ـ بوابة صيدا
لم يعد ممكنًا توصيف ما يجري داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي بلغة ملتبسة أو حيادية فالروايات التي خرجت إلى العلن، مدعومة بتقارير حقوقية وشهادات متقاطعة، تُظهر بوضوح أن منظومة الاحتجاز لم تُنشأ فقط لضبط “الأمن” كما تدّعي سلطات الاحتلال، بل لتكون أداة سياسية فاعلة في مشروع السيطرة والإخضاع وكسر إرادة أسرانا البواسل.
إن السجن، في التجربة الفلسطينية، لم يعد فضاءً قانونيًا تحكمه قواعد العدالة، بل تحوّل إلى ساحة تُمارس فيها سلطات الاحتلال سلطتها العارية على الجسد والكرامة، في غياب أي مساءلة حقيقية.
في السياق الفلسطيني، لا يمكن فصل منظومة السجون عن بنية الاحتلال ذاتها ، فالاعتقال ليس إجراءً استثنائيًا، بل سياسة دائمة تُستخدم لضرب النسيج الاجتماعي، وإعادة تشكيل الوعي الجمعي تحت ضغط الخوف ، الاعتقال الإداري، الذي يُنفَّذ دون تهمة أو محاكمة، يُعدّ المثال الأوضح على هذا الاستخدام السياسي للقانون، حيث تتحول النصوص القانونية إلى أدوات قمع بدلًا من كونها ضمانات حماية.
كما أن ما يتعرض له أسرانا البواسل داخل سجون الاحتلال ، وفق الشهادات المتكررة، يعكس فلسفة عقابية تقوم بها سلطات الاحتلال وتعتمد على الإذلال المنهجي، لا على المساءلة القانونية ، فالسجن هنا لا يُدار بوصفه مكانًا لتنفيذ حكم قضائي، بل كوسيلة لكسر إرادة الأسرى وإرسال رسالة ردع جماعي تتجاوز حدود الزنزانة لتطال شعبنا الفلسطيني برمته .
ومن أخطر ما تكشفه شهادات الأسرى المحررين هو الطابع المتكرر والمتشابه للانتهاكات ، فحين تتكرر الممارسات نفسها، وبالأساليب ذاتها، وفي مواقع احتجاز متعددة، يصبح من غير الممكن توصيف ما يجري كأخطاء فردية أو تصرفات معزولة، نحن أمام نمط ثابت، يُدار بعقل مؤسسي وبإرهاب دولة منظم، ويُنفَّذ بثقة نابعة من غياب المحاسبة، كون هذا التكرار المنهجي لا يفضح فقط طبيعة الممارسات، بل يكشف أيضًا عن وجود تعليمات ضمنية أو صريحة تسمح بحدوثها، أو على الأقل تتغاضى عنها. وهنا تتجلى مسؤولية الدولة ككيان سياسي وقانوني، لا كطرف عاجز عن ضبط سلوك أفراده.
فمن منظور القانون الدولي الإنساني، فإن ما يجري داخل سجون الاحتلال يشكّل خرقًا واضحًا لاتفاقيات جنيف، ولا سيما الاتفاقية الرابعة التي تُلزم القوة القائمة بالاحتلال بحماية السكان الواقعين تحت سيطرتها، وتحظر تعريضهم لأي معاملة قاسية أو مهينة ، كما أن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يجرّم الاعتقال التعسفي، ويكفل حق المحتجز في محاكمة عادلة وضمانات قانونية واضحة.
لكن الأخطر من مجرد الانتهاك، هو الطابع المنهجي لهذه الممارسات ضد أسرانا ، فوفق نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فإن الأفعال التي تُرتكب في إطار سياسة عامة، أو هجوم واسع النطاق أو منهجي ضد مجموعة سكانية محددة، قد ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية ، وهذا الوصف لا ينطبق فقط على طبيعة الأفعال، بل على السياق الذي تُرتكب فيه، وهو سياق احتلال طويل الأمد قائم على التمييز والسيطرة.
وهنا لا يمكن فهم استمرار هذه الانتهاكات دون التوقف عند مسألة الإفلات من العقاب،فغياب التحقيقات الجدية، أو الاكتفاء بإجراءات شكلية، يعكس إرادة سياسية واضحة بعدم محاسبة المسؤولين ، وحين تُغلق الملفات، أو تُبرّأ المؤسسات الأمنية تلقائيًا، تتحول العدالة إلى واجهة شكلية، ويُمنح الجلاد شعورًا مطلقًا بالحصانة.
في المقابل، يواصل المجتمع الدولي سياسة الكيل بمكيالين، مكتفيًا بإصدار بيانات قلق لا تترجم إلى إجراءات قانونية أو سياسية فاعلة ، هذا الصمت لا يمكن اعتباره حيادًا، بل هو مساهمة غير مباشرة في تكريس منظومة الانتهاك، وتقويض لمبدأ عالمية حقوق الإنسان.
وما يزيد المشهد قتامة هو أن ما كُشف حتى الآن لا يمثل الصورة الكاملة ، فثقافة الخوف، والضغوط النفسية، والوصمة الاجتماعية، تجعل كثيرًا من أسرانا عاجزين عن الحديث عمّا تعرضوا له ، وهذا الصمت القسري يعني أن حجم الجرائم الحقيقي أكبر بكثير مما هو موثق، وأن ما نعرفه اليوم ليس سوى الجزء الظاهر من واقع أعمق وأكثر اتساعًا ، ويُعد تجاهل هذا البعد لا يقل خطورة عن الجريمة نفسها، لأنه يسمح باستمرارها بعيدًا عن الضوء، ويمنح مرتكبيها وقتًا إضافيًا لترسيخها كأمر واقع.
ولذلك إن استمرار هذه الممارسات يضع المنظومة الدولية أمام اختبار حقيقي فإما أن تكون القوانين الدولية أدوات فاعلة لحماية الإنسان، أو تتحول إلى نصوص انتقائية تُطبّق على الضعفاء فقط ، وإن غياب المساءلة لا يهدد حقوق أبناء شعبنا الفلسطيني وحدهم، بل يقوّض أسس العدالة الدولية برمتها، ويفتح الباب أمام تطبيع الجريمة بوصفها “ضرورة أمنية”.
وفي النهاية إن ما يجري داخل سجون الاحتلال ليس تفصيلًا هامشيًا في مشهد الصراع، بل أحد تعبيراته الأكثر فجاجة. فحين تستخدم الدولة السجن كأداة إذلال ممنهجة، وتُحصّن نفسها من المحاسبة، فإنها تعلن صراحة أن القانون خادم للسلطة لا رقيب عليها. إن الصمت الدولي لم يعد موقفًا محايدًا، والتأجيل لم يعد خيارًا أخلاقيًا ، ففي مواجهة سياسة تقوم على كسر الإنسان، تصبح الحقيقة فعل مقاومة، وتغدو المحاسبة واجبًا لا يقبل المساومة.