ريتا عازار ـ نداء الوطن
في بلدٍ صار فيه فتح حساب مصرفي عملًا مجنونًا، بات اللبنانيّ يبتكر أماكن لتخبئة أمواله كما لو كان يعيش في أحد أجزاء فيلم "Mission Impossible"، لكن بميزانية "آخر الشهر". فبعد أن حجزت المصارف ودائع المواطنين وأصبحت عبارة "السيستم داون" شعار المرحلة، ابتسم اللبناني بسخرية مُرّة وهو يفكّر أن ما دام النظام معطّلًا، فسيبتكر نظامه الخاص.
تبدأ الرحلة الكبرى من الصراف الآلي إلى البيت. في لحظة تشبه مشهد الهروب من سجن مشدّد الحراسة، يمشي المواطن اللبناني حاملًا أوراقًا شحيحة من الدولارات وكأنه يحمل الكنز الأخير من سفينة "تيتانيك". يلتفت حوله في كل زاوية، يراقب الوجوه في الشارع، يشعر أن كلّ من يمرّ بجانبه يعرف أنه يحمل "رزق العمر". يقود سيارته ببطء وحذر، يفتح المذياع فيسمع أغنية قديمة للأخوين رحباني يغنيها إيلي شويري وجوزيف ناصيف صادحَين: "يا دنيي شتي مصاري شتي علينا فلوس"، فيخفض الصوت خوفًا من أن تنهمر دموعه على أمل قد لا يتحقق يومًا. لكن المغامرة الحقيقية لا تبدأ إلا عند الوصول إلى البيت، حين يطرح على نفسه السؤال الوجودي الذي حيّر آلاف اللبنانيين: "وين رح خبّي هالقرشَين؟"
عبقرية الإخفاء الاستراتيجي
منذ بدء الأزمة، تحوّلت ربات البيوت إلى مهندسات تمويه: إحداهن تخبّئ الدولارات في علبة فارغة كانت لعطر ومشتقاته من كريمات الجسم، وأخرى في علبة المجوهرات المزيّفة بين أقراط لم تضعها منذ التسعينات، وثالثة في كتاب قديم لم يقرأه أحد، عنوانه "كيف تُصبح ثريًّا في أسبوعَين".
لكن أكثر القصص شهرة هي قصة السيدة التي خبّأت ثلاثين ألف دولار داخل علبة بسكويت دون علم أهل البيت. وفي منتصف إحدى الليالي، استيقظ زوجها جائعًا وتسلّل إلى المطبخ في العتمة. تناول العلبة بشهية مفتوحة، وقضم رزمة دون أن يعلم أنه يلتهم نثرات من ثروة صغيرة. في الصباح، حين اكتشفت الزوجة ما حدث، صرخ الرجل بوجهها قائلاً: "ما بعرف شو كان أطيب، البسكوي ع شوكولا ولّا الدولارات!". ولم يترك الزوج أحدًا لم يخبره أنه أكل العملة الخضراء.
الرجال وأفكارهم العبقرية
أما الرجال، فلهم أساليب أكثر درامية. أحدهم، فلنسمّه "أبو نبيل"، قرّر أن يخبّئ أموالًا جناها من حراثة الأرض، في "جزمة" قديمة. ولم يكتفِ بذلك، بل صعد بها إلى "تتخيتة" المنزل ليحميها، لكن القدر دبّر له خطّة مختلفة. قبل أيام من عرس ابنته، قرّرت زوجته تنظيف البيت بأكمله، حتى "التتخيتة"! فرمت كلّ ما وجدته أنه ما عاد ينفع، وهكذا طارت الجزمة ومعها جنى عمر أبو نبيل. ومرّت شاحنة النفايات فحمّلت القمامة كلّها ومعها "الجزمة" الخزنة. ولمّا علم أبو العروس بما حصل، ركض والعائلة صوب المكبّ علهم يلتقون بالـ "جزمة" الثرية... ولكن عبثًا! ومنذ ذلك اليوم، صارت قصته تُروى مع فنجان القهوة كتحذير ساخر لكل من يثق بعبقريته.
دولارات مشويّة
في واحد من أحياء بيروت، قرّر رجل أن يخبّئ أمواله في فرن المطبخ موقتًا، بحجّة أنّ أحدًا لن يبحث هناك وأن اللصوص إن أتوا لن يفكّروا بفتح الفرن. لكنه نسي أو ربما تناسى إخبار زوجته بفعلته. الزوجة، التي لم تعلم بالأمر، قرّرت أن تُعدّ بيتزا مع "بيبيروني". أشعلت الفرن، وامتلأ البيت برائحة العجين الممزوجة بعبق الورق الأميركي المحترق. هرع الجيران للمساعدة، فقال أحدهم وهو يضحك: "شامم ريحة ورق عم يحترق!". الجميع شاهدوا "عمود البيت" وهو يضرب رأسه بالحائط، ومنذ ذلك اليوم صار بيتهم يُعرف في الحيّ باسم "بيت البيتزا ع دولار".
"الكاش" المشفر
أما الجيل الشاب فقد دخل اللعبة من بوابة التكنولوجيا. صاروا يخبّئون المال تحت لوحة المفاتيح، أو داخل ألعاب الفيديو، أو بين غلاف الهاتف وغطائه. أحدهم كتب منشورًا على "فايسبوك" بفخر: "مدّخراتي بأمان داخل الـ "PlayStation"، ما في بنك بيمسّها!". لكن المفارقة أنّ شقيقه الأصغر باع الجهاز عبر الإنترنت ليشتري "سكّينًا نادرة" في لعبة إلكترونية. وهكذا تحوّلت ثروة الأخ إلى شخصية رقمية راقصة داخل "Fortnite".
حبيب سابق يصعب نسيانه
المال في لبنان لم يعد وسيلة، بل حالة شعورية. إنه أشبه بحبيبٍ قديمٍ تركنا في منتصف الأزمة. نشتاق إليه، نلعنه، ونغني له أحياناً في السهرات. قال نجيب محفوظ يومًا: "المال لا يشتري السعادة، لكنه يخفف من التعاسة"، لكن اللبناني عدّل المقولة وأصبح يردّد: "المال لا يشتري السعادة، لكنه يشتري البنزين والخبز والأرُز، وذاك كافٍ موقتًا".
مأساة ليلى و "البتكوين"
أما العملات الرقمية فهي الحب الحديث الذي يتحدث عنه الجميع ولا يفهمه أحد. شاب لبناني قال لصديقه: "أنا مستثمر في البتكوين". فسأله الأخير إن كان يفهم كيف تعمل؟، فأجابه واثقًا: "ليس ضروريًا أن أفهمها، المهم أنها تفهمني".
ليلى، شابة لبنانية في منتصف العشرينات، قررت دخول عالم العملات المشفرة بعدما سمعت أصدقاءها يتفاخرون بأرباحهم. اشترت جزءًا من بتكوين، سجّلت كلمة مرور معقدة لتبدو محترفة، ثم نسيتها بعد أسبوع. حاولت استرجاعها بكل الوسائل، لكن النظام الرقمي أجابها ببرود: "الوصول مرفوض". جلست على الأريكة تحدّق في الشاشة وهي تردّد مولولة: "أنا الآن أملك ثروة رقمية لا يمكنني لمسها، تمامًا كحلم عائلتي باسترجاع وديعة أبي المصرفية".
تذكرة إلى الحلم المستحيل
مع كل ما سبق لم يعد "اللوتو" في لبنان مجرّد لعبة، بل صار علاجًا نفسيًا جماعيًا. مرّتَين كلّ أسبوع، يشتري المواطنون تذاكرهم ويعيشون يومًا كاملًا من الأمل.
خالد، موظف في شركة تأمين، اشترى تذكرة وقال للبائع: "أعطني حظًّا فقد نفدت مدّخراتي!". عاد إلى البيت يرسم أحلامه على ورقة، خطّط للسفر، وقرّر في باله أنه حين يفوز سيبدأ حياة جديدة. لكن حين ظهرت النتائج، لم يصب أي رقم، ابتسم وقال لزوجته: "الحمد لله، الحلم بمئة وعشرين ألفًا مع "زيد"، لكن الصدمة مدفوعة بالكامل".
مسرحية بلا نهاية
في كل بيت لبناني، يدور عرض مسرحي يومي عنوانه الراتب والفواتير. يدخل الراتب في بداية الشهر مثل ضيف شرف، تستقبله الأسرة بحفاوة، لكن بعد أيام قليلة يختفي كأنه لم يكن. الفواتير تخرج من الأدراج بانتظام عجيب، تمدّ يديها كأشباح تطالب بحقها. وبين الكهرباء، الإنترنت، والمدرسة، والإيجار والطبابة يتحول كل بيت إلى مسرح صغير للدراما الاقتصادية، ينتهي دومًا بعبارة واحدة: "ما فينا نوفر، منيح بعدنا عم نضحك!".
إبداع بلا حدود
لم يفقد اللبناني حسّه الإبداعي وسط كل هذا العبث، بعد البسكويت والفرن و "الجزمة"، سمعنا عن من يخبّئ المال في علبة لبنة "لايت" أو داخل "أصيص" نبتة زينة. المنطق بسيط، فحواه: "من سيقترب من اللبنة أو يسقي الزرع أصلاً؟". هكذا تتحوّل الحاجة إلى فنّ، والنجاة إلى نوع من الكوميديا السوداء التي تثير الضحك والدهشة في آن واحد.
ضحك تحت الضغط
في النهاية، المال في لبنان ليس مجرّد وسيلة، بل شخصية رئيسة في المسرحية الكبرى التي نعيشها جميعًا. إنه الورقة التي تُحرق في الفرن، والبطاقة التي تخذلنا عند الصراف الآلي، والعملة الرقمية التي تضيع بين كلمات المرور، وتذكرة "اللوتو" التي لا تفوز أبدًا. لكن على الرغم من كل ذلك، يضحك اللبناني.
يضحك لأنه يعرف أن البكاء لن يغيّر شيئًا، ولأن السخرية هي آخر أسلحته في معركة يومية مع العبث. يعيش اللبناني اليوم بين ضحكة ودمعة، بين دولار محترق وأملٍ متجدّد. وبينما يتحدّث العالم عن خطط اقتصادية واستراتيجيات مالية، نحن في لبنان نقول بابتسامة متعبة: "لا نستطيع شراء السعادة، لكن يمكننا أن نسخر منها قليلًا، وهي تضحك معنا أو علينا".
في نهاية المطاف، ليس المال في لبنان سوى مرآة تعكس عبقرية الناس تحت الضغط. بلدٌ صغير على الخريطة، لكنه كبير في الخيال، استطاع أن يحوّل كلّ كارثة إلى نكتة، وكل مأساة إلى حكاية تُروى على فنجان قهوة. اللبناني لا يملك حسابًا مصرفيًّا آمنًا، لكنه يملك حسًّا فكاهيًّا لا يمكن تجميده، ولا يخضع لأيّ "كابيتال كونترول". لقد صار التهكّم جزءًا من الاقتصاد غير الرسمي، والابتسامة عملة متداوَلة لا تخضع لسعر الصرف.
ربما لا يعرف اللبناني كيف ينقذ ماله، لكنه يعرف كيف ينقذ نفسه من الجنون بابتسامة مُرّة، وهنا تكمن المعجزة الحقيقية، وهي أن نضحك ونحن نسير على أنقاض المصارف وودائعنا فيها.