• لبنان
  • الأحد, تموز 27, 2025
  • اخر تحديث الساعة : 8:53:55 ص
inner-page-banner
مقالات

ماكرون بين الاعتراف وعدم الاعتراف بدولة فلسطين

د. صريح صالح القاز

في مشهدٍ بات مألوفًا في السياسة الفرنسية، يواصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التلويح بورقة الاعتراف بدولة فلسطين، دون اتخاذ أي خطوة عملية حاسمة.

فمنذ بضعة أشهر، صرّح بنيّته الاعتراف بدولة فلسطين في مؤتمر مشترك مع السعودية يُعقد لهذا الخصوص في نيويورك خلال شهر يونيو الماضي، غير أن المؤتمر لم يُعقد، ولا تم الاعتراف!

ثم عاد مؤخرًا ليُعلن أن فرنسا ستُقدِم على هذه الخطوة في سبتمبر القادم خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. لكن هذه التصريحات، رغم تكرارها، لا تزال حبيسة النوايا والكلام غير الملزم.

فلا يخفى على أحد أن فرنسا – كدولة أوروبية محورية وعضو دائم في مجلس الأمن – تملك وزنًا دبلوماسيًا يُمكن أن يُحدث فرقًا سياسيًا في ملف الاعتراف بدولة فلسطين. ومع ذلك، يظل ماكرون مترددًا، يتنقل بين عبارات الدعم اللفظي والمراوغة الفعلية.

فما الذي يمنعه من الاعتراف الفوري؟

من الواضح أن هناك عوامل داخلية تلعب دورًا في إطلاق ماكرون لمثل هذه التصريحات، وفي مقدمتها امتصاص غضب أكبر أقلية مسلمة في فرنسا مقارنة بأي دولة أوروبية أخرى، إذ يُقدَّر عدد المسلمين في فرنسا بحوالي 6 ملايين نسمة، وهو ما يشكّل أكبر جالية إسلامية في أوروبا الغربية، مما يفرض على ماكرون حسابات سياسية واجتماعية ينبغي عليه مراعاتها كرئيس لفرنسا وكزعيم سياسي لأحد الأحزاب الفاعلة.

كذلك يأتي تريّث ماكرون في الاعتراف، خشية من الضغوط السياسية من اللوبيات الداعمة للكيان الإسرائيلي داخل فرنسا، والمخاوف من انعكاسات هذا الاعتراف على الداخل الفرنسي، الذي يعاني من انقسامات حادة في الرأي العام تجاه الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.

أما خارجيًا، فإن فرنسا إعلاميًا تسعى إلى دغدغة مشاعر العالم العربي والإسلامي بما يحافظ، إلى حدٍّ ما، على قبول فرنسا دبلوماسيًا أو اقتصاديًا أو أخلاقيًا، وللظهور أيضًا بأنها ما زالت فاعلة في قضايا المنطقة العربية، وأن أميركا ليست المنفردة في النفوذ، ولن يظل ملف الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي حكرًا عليها إلى ما لا نهاية.

لكنها عمليًا تتجنّب التصادم المباشر مع أميركا وإسرائيل، وتساير المزاج العام الأوروبي خصوصًا في ظل تصاعد العدوان الإسرائيلي على غزة وتوسّع الاستيطان في الضفة.

ومن المثير للمفارقة أن دولًا أوروبية مثل إيرلندا، النرويج، وإسبانيا، كانت أكثر حسمًا من فرنسا، إذ سارعت هذه الدول إلى الاعتراف رسميًا بدولة فلسطين في مايو 2024، دون تلكؤ أو انتظار مشروط. واللافت أن هذه الدول لا تضم جاليات مسلمة بحجم الجالية الموجودة في فرنسا، ما يجعل التردد الفرنسي موضع تساؤل أخلاقي وسياسي.

لا شك أن تأخير ماكرون للاعتراف، في الوقت الذي تتصاعد فيه البربرية الإسرائيلية بشكل مريب بحق الإنسان الفلسطيني والأرض الفلسطينية، سواء في القطاع أو الضفة، لا يدل إلا على أن خلف الأكمة ما خلفها.

بمعنى أن ماكرون لو كان بالفعل ينوي الاعتراف بدولة فلسطين، فلماذا يؤجّل ذلك وهو يدرك أن الكيان الإسرائيلي، من يوم إلى آخر، يقضم الأرض ويفرّغ السكان، بالإبادة أو بالتهجير القسري؟

وعلى افتراض صحة تنفيذ الاعتراف لاحقًا، فماذا يعني هذا الاعتراف إذا ما ابتلع الكيان الأرض وفرّغ السكان، وظهرت معطيات على الأرض يستغلها الكيان لعرقلة أي توجه دولي للاعتراف بقيام دولة فلسطين؟

ففي هذه الحالة، كأن ماكرون يريد منح فلسطين والأمة العربية والإسلامية اعترافًا إعلاميًا فارغ المحتوى، ويريد منح الكيان الإسرائيلي الأرض والنفوذ.

في حال استمرت فرنسا في نهجها الحالي، سيما وهي على علم بما يجري على الأرض إلى جانب تصويت الكنيست على رفض الاعتراف بقيام دولة فلسطين وعلى ضم الضفة الغربية إلى تحت السيادة الإسرائيلية، فإن أي اعتراف قادم بدولة فلسطين بعد انتهاء الحرب أو فرض وقائع استيطانية جديدة على الأرض، سيكون بلا أثر عملي.

بل قد يُنظر إليه كخطوة لتبييض الموقف الأخلاقي، أكثر منها دعمًا حقيقيًا للحق الفلسطيني.

يمكن القول: بين التصريحات المكررة والتردد المستمر، تبدو فرنسا، في عهد ماكرون، عاجزة عن كسر نمط الحياد الكاذب.

فالاعتراف بدولة فلسطين لا يحتاج إلى مشاورات طويلة، ولا إلى انتظار سبتمبر، بل إلى شجاعة سياسية وقرار تاريخي.

وكل يوم تأخير يُفقد الموقف الفرنسي مصداقيته، ويمنح الاحتلال وقتًا إضافيًا لاستكمال مشروعه القائم على محو الجغرافيا والهوية الفلسطينية.

وعلى ما يبدو، فإن ماكرون قرر أن يستثمر التصريحات الإعلامية بشأن الاعتراف من جهة، ويستثمر ترحيل الاعتراف الفوري من جهة ثانية، ريثما يتكشّف المشهد أمامه أكثر، بحيث يستطيع الاعتراف أو عدم الاعتراف، بما لا يُلحق أي ضرر بفرنسا.

بوابة صيدا

الكاتب

بوابة صيدا موقع إخباري متنوع ينطلق من مدينة صيدا ـ جنوب لبنان، ليغطي مساحة الوطن، والأمة العربية، والعالمين الإسلامي والغربي.. يقدم موقع (www.saidagate.com) خدمة إخبارية متنوعة تشمل الأخبار السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإسلامية، والمقالات المتنوعة.. تقوم سياسة الموقع على الحيادية، والرأي والرأي الآخر، يستقي الموقع أخباره، من تغطيته للأحداث، ومن وكالات الأنباء العربية والعالمية..

مدونات ذات صلة