د. محمد عياش الكبيسي ـ بوابة صيدا
انتشرت هذه الأيام عبارات تنتقص من الحج والحجيج بأساليب مختلفة، وبعضها يتضمن أبياتا مشهورة (يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب) كأنهم يقولون للحجاج: إن حجكم هذا إنما هو لعب!
وأختصر الموقف الشرعي من ذلك بما يأتي:
1 ـ إن الله تعالى أمرنا أمرا صريحا بتعظيم شعائر الله وجعل ذلك علامة على رسوخ التقوى في القلوب، فقال سبحانه: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ )، والحج كله شعائر، وقد نص القرآن على بعض شعائره فقال: (إن الصفا والمروة من شعائر الله، وعليه فإن وصف الحج وفي وقت الحج باللعب أمر ليس حراما فقط بل هو خطير غاية الخطورة.
2 ـ إذا كان المقصود بالتهوين هذا دفع الناس لواجب أكبر وهو (الجهاد) فهذا باطل لأمور كثيرة، منها:
- أن عامة الحجاج الآن ليس مفتوحا أمامهم طريق الجهاد حالهم حال أكثر من مليار ونصف من المسلمين الجالسين في بيوتهم ومنهم أصحاب هذه المنشورات، فمن الناحية العملية أنت تدعوهم إلى ترك الحج والرجوع إلى بيوتهم لا أكثر.
- إن الحج فرض عين، بينما الجهاد فرض كفاية بشقيه (الطلب والدفع) أما الطلب فمعلوم وهو غير موجود الآن أصلا، وأما الدفع فهو واجب على أهل الثغر ثم من يليهم بما يندفع به خطر العدو، فهو بكل الأحوال لا يجب على جميع المسلمين، ومن المفارقات هنا مطالبة الحجاج بما لا يقدرون عليه وترك الفلسطينيين في الضفة ومناطق 48، وهؤلاء هم المعنيون أكثر من غيرهم بنصرة غزة وهم الأقدر على ذلك.
وإذا كانوا يعتذرون بأنهم يعيشون تحت سلطة تمنعهم من النصرة، فهذا العذر ينطبق على بقية الشعوب بشكل أكبر وأوضح.
3 ـ أما الاحتجاج بهذه الأبيات لأنها منسوبة لابن المبارك، وأنه قد أرسلها لشيخه الفضيل بن عياض -عليهما رحمة الله- يعاتبه فيها أنه ترك الجهاد وذهب (يلعب بعبادته)، فالحقيقة أني ما كنت أظن أن طالب علم من الممكن أن يحتج بمثل هذه الأبيات على أمر مناقض لصريح القرآن، وإليكم بعض التفاصيل السريعة:
- إن هذه الرواية متهافتة من حيث السند، وفيها من هو متهم بالوضع والدجل مثل؛ محمد الشيباني الكوفي نزيل بغداد، حيث قبله بعض الرواة قبل أن يتبين لهم كذبه وصلته بالرافضة، ومنهم من هو معروف بالغرائب كابن أبي سكينة الذي روى حديثا منكرا؛ أن أربع مدن من الجنة منها دمشق، وأربع مدن من النار منها صنعاء!
ولم أعثر على طريق واحد يرتقي بها إلى درجة المقبولية، أما الصحة فهي شبه المستحيل.
- أنها متهافتة من حيث المتن، فالجهاد على عهد ابن المبارك كان جهاد طلب ينتدب إليه بعض القادرين (فرض كفاية) وبقية الأمة تبقى مشغولة بواجباتها الأخرى كالتعليم والدعوة والصناعة والزراعة والتجارة.. الخ فهل سيلوم ابن المبارك هذه الأمة كلها؟ وما مستنده في ذلك؟ وهل قد أغلق المحدثون والفقهاء مجالس علمهم كلها؟ هذا أمر غير شرعي وغير منطقي، ثم هل ممكن لعالم فقيه ورع أن يصف الحج باللعب؟ وكيف يوجّه هذا الكلام القاسي لشيخه الرجل المجمع على علمه وصلاحه وشدة ورعه؟ وما معنى قوله ( يتعب خيله في باطل) في رسالته المخصوصة لشيخه؟
4 ـ قد يظن بعض الناس من غير أهل الاختصاص أن شهرة هذه الأبيات في كتبنا يعطيها قدرا من المصداقية، والحقيقة خلاف ذلك، غاية ما في الأمر أن مؤرخينا كالطبري وابن عساكر وابن كثير لا يتشددون في نقل القصص والحكايات التاريخية لأنها ليست مصادر للتشريع، على عكس الحديث النبوي الذي يتشددون جدا في روايته، ولذلك تجد مئات الروايات التاريخية المكذوبة والواهية التي ينقلها الطبري في تاريخه، وابن كثير في (البداية والنهاية) وكذلك كتب (الوعظ والرقائق وقصص الصالحين) فأغلبها يخلو من السند أصلا، لأن القصد أخذ العبرة العامة وليس استنباط الأحكام منها، فهذه من الدقائق العلمية التي ينبغي أن ينتبه لها الباحثون عن الحقيقة وطلاب العلم.
إخواني أخواتي:
إن الواجبات الشرعية يعضد بعضها بعضا، فلا يجوز لمن يقوم بواجب أن ينتقص من الواجبات الأخرى.
ولقد خاضت المقاومة العراقية معارك شرسة ضد الاحتلال الأمريكي فلم أسمع من طالب عالم أو مجاهد أنه انتقص من فريضة أخرى أو أنه انتقص من إخوانه المسلمين في العالم مهما كان تقصيرهم، وهكذا شأن أهلنا في سورية الثورة والتضحيات الاستثنائية، وكذلك كل ثغورنا وجراحاتنا النازفة، وحتى علماء غزة ودعاتها وحكماؤها، وهذا هو منطق الشرع والنبل والتجرد والإخلاص.
لكنا صرنا نسمع هذه الجرأة على دين الله وعلى عباد الله من بعض الذين لا يعرفون الجهاد إلا من خلال (المبايل)، مع نقص في معلوماتهم الواقعية وفقر في علمهم الشرعي، فتحملوا الآثام الكبيرة وقد كانوا في غنى عنها، وأساءوا للقضية التي يظنون أنهم يدافعون عنها.
اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا
واجعل معونتك العظمى لنا مددا
ربي أعنًا على إصلاح أنفسنا
فالنفس تعجز عن إصلاح ما فسدت
ـــــــــــــ
إقرأ ايضاً