نبيل يوسف ـ نداء الوطن
فجر 10 نيسان 1973 نفذت وحدة "كوماندوس" إسرائيلية قيل إنها كانت بقيادة إيهود باراك عملية في شارع فردان في قلب بيروت أدت إلى مقتل 3 قادة فلسطينيين هم: أبو يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر. العملية هزّت البلد والعالم العربي، وكادت يومها تندلع الحرب اللبنانية التي استطاع بعض القادة تأجيلها مجدداً حتى نيسان 1975.
ماذا جرى في شارع فردان فجر الثلثاء؟
أجمعت مصادر عدّة أرّخت لتلك المرحلة أبرزها "أقدار وتوقعات" للعقيد جول بستاني و"تفكك أوصال الدولة اللبنانية" للدكتور فريد الخازن و"المكتب الثاني حاكم في الظل" للصحافي نقولا ناصيف والصحف المحلية أن هناك روايتين لعملية اغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة تلتقيان على أن وحدة كومندوس إسرائيلية حملها زورق حربي أو أكثر نزلت على شاطئ بيروت، وانطلق أفرادها لتنفيذ العملية، لكنّ الروايتين تختلفان حول موقع نزول وحدة الكومندوس، ففي حين تورد إحداها أن أفراد الوحدة نزلوا عند شاطئ الرملة البيضاء في الموقع الذي عادوا وأبحروا منه قرب مسبح الإيدن روك، تقول الرواية الثانية إن المجموعة نزلت في منطقة الدورة في ضواحي بيروت الشمالية ثم عادت وغادرت من الرملة البيضاء جنوب العاصمة، وتبين أن هناك أهدافاً ضربت في محلة الدورة بما فيها مصنع ذخيرة يملكه أرمني كانت له صلات بحركة فتح، وبعض المصادر أشارت إلى أن صاحب المصنع الفعلي هو الفلسطيني حسن لزح.
في هذه الأثناء قصفت القوات الإسرائيلية مناطق ساحلية قرب صيدا لصرف الانتباه عن العملية في بيروت.
كان في انتظار وحدة الكومندوس الإسرائيلية 4 عملاء أجانب كانوا وصلوا إلى بيروت قبل العملية بأسبوع للتخطيط لها، وأقاموا في فنادق مختلفة في العاصمة، وتبين من وثائق سفرهم أنهم كانوا من الرعايا الأوروبيين (بريطانيا، سويسرا، وبلجيكا). أحدهم كان غادر إلى روما قبل العملية بيومين أو 3 ثم عاد إلى بيروت في اليوم التالي، فيما معلومات أخرى أشارت إلى أن عدد العملاء الأجانب كانوا 6 بعد أن انضم إلى الأربعة نهار العملية شخص هندي وآخر بريطاني.
استأجر العملاء 6 سيارات تجولت نهار العملية قرب منازل القادة الفلسطينيين لاستكشافها، كما تعامل العملاء الأجانب مع أدلاء محليين أرشدوهم إلى مهمتهم.
يبدو أن مهمة العملاء المحليين كانت إعداد خطة التحرك على الأرض ثم نقل أفراد الوحدة بالسيارات إلى المواقع المستهدفة.
استخدم العملاء اللبنانيون 6 سيارات أخرى استأجروها من وكالتين لتأجير السيارات في بيروت، وأوصلوا أفراد الكوماندوس إلى موقعين اثنين، واحد في مخيم صبرا حيث استهدفوا أحد المباني المعروف أن ياسر عرفات يرتاده، ولكن لم يتضح ما إذا كان أبو عمار شخصياً مستهدفاً أم لا، والثاني افي شارع فردان حيث يقيم القادة الفلسطينيون الثلاثة، وبعد أقل من 40 دقيقة أنهوا مهماتهم وعادوا بهم إلى الرملة البيضاء حيث غادروا معهم تاركين سياراتهم على الشاطئ.
كانت الشعبة الثانية في الجيش اللبناني (مخابرات الجيش) وبناءً لمعلومات موثوقة توقعت منذ 8 أيلول 1972 قيام إسرائيل برد انتقامي داخل الأراضي اللبنانية ورفعت إلى قيادة أركان الجيش اللبناني بطاقة تحذيرية تقترح تدابير احترازية منها اتخاذ تدابير حماية للشخصيات الفلسطينية بتوجيه الاستخبار والأمن نحوها وإرسال دوريات من قوى الأمن الداخلي والأمن العام والشعبة الثانية إلى جوار مراكزها ومكاتبها ومساكنها، وبعد موافقة رئاسة الأركان على التدابير المقترحة تم إبلاغ منظمة التحرير الفلسطينية بواسطة مكتب الارتباط العسكري للشؤون الفلسطينية، لكن فشلت كل التدابير الاحترازية بسبب إحجام المقاومة الفلسطينية الفعلي عن التعاون مع القوات المسلحة اللبنانية وتحرشها بدورياتها كلما اقتربت من مخيماتها ومقارها ومراكزها، ما جعل الضباط يتذمرون ويشتكون ثم يقرفون، فيهملون تنفيذ تدابير المراقبة والحماية.
في مذكرات غير منشورة للعماد اسكندر غانم يروي أنه في الساعة المحددة توجهت 3 سيارات إلى شارع فردان و3 أخرى إلى صبرا تنفيذاً لخطة درست سابقاً وأجريت عليها لوقت طويل تدريبات داخل إسرائيل في أماكن مشابهة لأحياء بيروت لضمان نجاحها، وفي شارع فردان توقفت السيارات على مسافة 50 متراً من البناية التي يسكنها أبو يوسف النجار وكمال ناصر وكمال عدوان وخرج الكومندوس الإسرائيلي من السيارات بلباس هيبي.
لم يعترضهم حارسا المدخل لاعتقادهما أنهم يقصدون الطبقة الخامسة من العمارة التي يقطن فيها مهندس للديكور اعتاد استقبال شبان وفتيات هيبيين، ومع أن المسلحين المموهين بلباس الهيبيين ارتدوا معاطف طويلة تقي من المطر في ليل صحو، بينما كانوا أخفوا رشاشاتهم تحتها وصوبوا فوهاتها إلى المسؤولين الفلسطينيين داخل منازلهم بعد نسف مداخل الشقق التي يقيمون فيها في تلك البناية، وأطلقوا النار عليهم وعلى الحارسين اللذين سارعا إلى نجدتهم، وبعد انسحابهم ركب الإسرائيليون سياراتهم في طريقهم إلى حيث تنتظرهم الزوارق المطاطية.
يقول أبو حسن سلامة قائد القوة 17 في فتح الذي اغتالته إسرائيل سنة 1979 إن المخابرات المركزية الأميركية كانت حذرته من مخطط لاغتياله مع قادة فلسطينيين وطلبت منه نقل مقر إقامته إلى داخل أحد المخيمات المضمون أمنياً أكثر.
يضيف: شددت الحراسة على منزلي الذي كان يحرسه 12 مقاتلاً، لكن القادة الذين اغتيلوا رفضوا تشديد الحراسة على منازلهم واكتفوا بحارسين معتبرين أنهم غير مستهدفين فكان أن دفعوا الثمن، فلو كان أمام مدخل البناية 10 أو 12 حارساً لما تمكن الكومندوس من الدخول بأي شكل من الأشكال.
عندما أحيطت السلطات العسكرية اللبنانية علماً بأن صدامات تقع في منطقة فردان افترضوا أن هناك اشتباكاً بين الفصائل الفلسطينية نفسها، ذلك أن صداماً كان قد وقع قبل ساعات في مخيم ضبيه بين الصاعقة وفتح أسفر عن سقوط قتيل وعدد من الجرحى، وحين أرسلت قوى الأمن الداخلي 4 سيارات من الفرقة 16 إلى موقع الحادث اصطدم أفرادها بالمسلحين الفلسطينيين الذين كانوا موجودين هناك فقتل شرطي لبناني وجرح 6 بينهم ضابط.
رواية رونين برغمان
في أيار عام 2019 نشر المتخصص في قضايا الاستخبارات، رونين برغمان في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، تفاصيل جديدة مع صور ورسومات هندسية للمبنى الذي نفذت فيه العملية في شارع فردان، تركزت على ما يتعلق بالجانب الإسرائيلي وبالتحضيرات للعملية.
ويقول برغمان في تقريره أن الموساد قرر اغتيال القادة الثلاثة في بيروت، لنشاطهم البارز في "فتح"، والمقاومة الفلسطينية، وبدعوى مشاركتهم في التخطيط لعملية ميونيخ في 5 أيلول 1972 تلك العملية التي نفذتها مجموعة من "منظمة أيلول الأسود" وهاجمت فيها الفريق الرياضي فكلف جاسوسة تدعى "ياعيل" بمتابعة أماكن سكن القادة الفلسطينيين، حيث وصلت إلى بيروت، في منتصف كانون الثاني 1973، ونزلت في فندق، وبعد أيام استأجرت شقة في بناية تقع مقابل البنايتين اللتين يسكنهما عدوان وناصر والنجار. وحسب برغمان، فإن ياعيل تجولت في منطقة سكنها، حاملة محفظتها وبداخلها كاميرا التقطت بواسطتها صوراً كثيرة وأرسلتها إلى الموساد، وبينها صور للشارع الذي تقع فيه البنايتان وشقق المسؤولين الفلسطينيين الثلاثة، وصورة لحارس عدوان.
يضيف برغمان: نهار 9 نيسان، تجمعت القوات الإسرائيلية، في قاعدة سلاح البحرية في حيفا. وفي الساعة 4 عصراً أبحرت بوارج إسرائيلية، بعد أن أبلغتهم "ياعيل" أن المستهدفين الثلاثة في بيوتهم، وتم إبلاغ القوة في البوارج بأن "العصافير في العش".
جرى إنزال 19 زورقاً مطاطياً من 8 بوارج، حملت أفراد القوة الإسرائيلية إلى شاطئ بيروت، بينهم 21 جندياً من "سرية هيئة الأركان العامة" و34 من الكوماندوس البحري و 20 من سرية المظليين.
في المقابل كانت قوات برية وبحرية وجوية في حالة جهوزية، بحال تشوش العملية. وكان العدد الإجمالي للجنود الإسرائيليين الذين شاركوا في العملية قرابة 3 آلاف"
يتابع برغمان. ولدى وصول القوات إلى الشاطئ، حمل أفراد الكوماندوس البحري قوات "سرية هيئة الأركان العامة" على أيديهم كي لا يتلف "مكياجهم"، فقد كان قسم منهم متنكراً كنساء.
التشييع بمشاركة الشيخ بيار الجميل
روى الأستاذ كريم بقرادوني تفاصيل نهار 12 نيسان 1973 فكتب أنه إثر ما حدث في 10 نيسان 1973 خيم جو من الغضب بسبب اغتيال القادة الفلسطينيين ومن الخوف بسبب ظهور مناخات بداية حرب أهلية إذ انقسمت البلاد بين من يدافع عن المؤسسة العسكرية وقائدها، ومن يعارض الجيش ويطعن بهيكليته وتوجهاته ويحمّله مسؤولية التقصير.
تابع: "يومها أصررت على أن يقوم الشيخ بيار الجميل بخطوة رمزية ذات دلالة تخفف من حدة التوتر، واقترحت عليه أن يشارك في تشييع القادة الفلسطينيين الثلاثة في ساحة النجمة، وكنت أعي حجم المخاطرة الأمنية التي تنطوي عليها هذه الخطوة، لكن شجاعة الشيخ بيار الجميل، ورغبته في ضبط الإنفلات جعلتاه يوافقني على هذه البادرة، رغم اعتراضات كل المسؤولين الأمنيين والعسكريين داخل حزب "الكتائب".
أعلمت ياسر عرفات برغبة الشيخ بيار الجميل، فأبدى تشجيعاً كبيراً وأكد أنه سيتخذ أقصى التدابير لحماية رئيس "الكتائب".
كان يوم التشييع يوماً استثنائياً في حياة بيروت: ربع مليون نسمة رفع الألم حزنها إلى حالة الهستيريا وبات من الصعب ضبط حدود غضبها، ومع اقتراب الموعد، تدخّل وليم حاوي قائد ميليشيا الكتائب ومعه أكثرية المكتب السياسي لمنع الشيخ بيار الجميل من الذهاب إلى بحر التشييع، لكن رئيس الكتائب حسم الأمر في اللحظة الأخيرة، وتوجهنا إلى ساحة النجمة مع مواكبة مسلحة.
شاءت الصدف أن يترافق وصولنا مع وصول موكب كمال جنبلاط، وبعفوية كاملة راحت الجماهير تهتف بحياة الزعيمين، وساد جو من الرهبة والوحدة، ودخل كمال جنبلاط وبيار الجميل، جنباً إلى جنب إلى المسجد، وكأن لبنان يعاند قدره ويحاول دفع الحرب المقتربة".
يكمل بقرادوني: "فيما كان الشيخ بيار الجميل يقدم التعازي، جاءني أبو حسن سلامة وقال لي بلهجة من يتخوف من حدوث مفاجأة، أنه من الأفضل أن لا نرافق جثمان الشهداء إلى المقبرة، وأن يخرج الشيخ بيار الجميل حفاظاً على أمنه من الباب الخلفي للمسجد، وفهمت من أبو حسن سلامة أنه يشعر بالخوف على الشيخ بيار، وبالقلق من أن يقدم أحد ما على ما يحوّل التشييع إلى بداية حرب، ولم يكن أمامنا سوى ترك سيارات المواكبة عند المدخل الرئيسي والخروج من الباب الخلفي الذي يطل على مقهى الأوتوماتيك، وكانت الطرقات خالية تماماً وصودف مرور سيارة أجرة توقف سائقها فصعدنا معه".
لم ينتبه سائق السيارة لدى توقفه لهوية الركاب، وعقد الذهول لسانه حين أدرك أنه يقل الشيخ بيار الجميل في هذه الأجواء وبلا حراس، وبدا كمن يحس بخطورة هذا النوع غير العادي من الركاب فسابق الوقت لإيصالنا إلى بيت الكتائب، الذي وصلناه والجميع في حالة غليان.
من هو فيليب الخازن وما علاقته بما جرى في فردان تلك الليلة؟
فيليب طنوس الخازن شاب من زغرتا كان يعمل وقتها في مطار بيروت ويقيم في شقة في بناية في فردان قريبة من موقع سكن القادة الفلسطينيين.
كان فيليب الخازن يسهر ليلة اغتيال القادة الفلسطينيين في منزله مع 3 من رفاقه الزغرتاويين وملازم أول من المكافحة وخطيبته المصرية القبطية التي تعمل مضيفة في شركة مصر للطيران.
في 20 تشرين الأول 1975، هدأت الحرب قليلاً في ما عرف بالجولة الرابعة، فقرر فيليب الخازن تفقد منزله في فردان، الذي كان هجره تقريباً منذ ليلة حادثة فردان، وما كان يتردد عليه إلا لماماً برفقة بعض الأصدقاء ولم ينم فيه ليلة واحدة.
وصل فيليب مع سائق التاكسي عند أمام البناية حيث منزله، وطلب من السائق انتظاره لبعض الوقت، وصعد يتفقد شقته.
ماذا أخبر السائق؟
روى السائق لاحقاً: "بعد نزول فيليب من السيارة شاهدته يتحدث مع شخص عند المدخل أدركت أنه ناطور البناء، ومن حسن حظي أن فيليب لم يقل له إنه قادم معي لأني اضطررت إلى ركن السيارة بعيداً بعض الشيء.
بعد دخول فيليب البناية شاهدت ذاك الرجل يتوجه إلى مكان ما من دون أن يلتفت إلي، وبعد دقائق عاد ومعه 3 مسلحين أيضاً لم ينتبهوا لوجودي ودخلوا البناية: لحظات وسمعت صوت بضع رصاصات وعاد المسلحون من حيث قدموا ومعهم البوّاب.
تأخر فيليب بالعودة وسمعت صراخاً داخل البناية، فنزلت وكان الجيران يركضون فصعدت معهم لأشاهد فيليب مضرجاً بدمائه عند باب شقته، فيبدو أن الناطور والمسلحين قرعوا الباب وما إن فتح لهم حتى أردوه بالرصاص.
عدت إلى سيارتي من دون أن ينتبه أحد إليّ، فغادرت وأخبرت أقارب فيليب".
لماذا قتل يومها فيليب الخازن؟
سؤال طرح كثيراً، خاصة وأن لا أخصام له إطلاقاً، ونسجت قصص عديدة حول ظروف مقتله الغامض يومها من دون حدوث أي سرقة، لكن ظل السبب الحقيقي لمقتله مبهماً، إلى أن تكشّفت لاحقاً بعض الحقيقة: قتل فيليب الخازن بسبب ما جرى فجر 10 نيسان 1973 في فردان.
كيف تم ربط مقتل فيليب الخازن بقصة فردان؟
هزّ مقتله المجتمع الزغرتاوي وسعى الرئيس فرنجية وقيادات وفاعليات زغرتاوية عدّة لمعرفة الدوافع. بعد 3 أو 4 أيام وجدت جثة ذاك الناطور عند شاطئ خلدة، وأول من تحدث عن ربط مقتل فيليب الخازن بقصة فردان كان سمير فرنجية وكانت معلوماته من أبو حسن سلامة.
ما علاقة ما جرى يومها في فردان مع فيليب الخازن؟
كنت ذكرت أن فيليب الخازن كان يسهر يومها مع بعض الأصدقاء فشاهدوا بالتفصيل ما جرى ولا بد من إسكاته.
ماذا شاهد فيليب الخازن ورفاقه من شرفة المنزل؟
خلال جلوسهم سمعوا إطلاق نار عند طرف الشارع فهبط الملازم أول إلى المدخل محاولاً معرفة أي شيء؟
كان في الطابق الأرضي مكتب "تاكسي" فشاهد السواقين يتابعون أحاديثهم وكأن شيئاً لم يحصل.
على استفساره ردوا: "هودي فلسطينيين كل ليلة بيتقاتلوا مع بعض طبيعي". ثمّ عاد إلى الشقة واتصل بقائد المكافحة الرائد نزار عبد القادر وأخبره بما يجري، فرد عليه أنه سيرسل دورية إلى المكان وطلب منه البقاء حيث هو والإفادة. أنهى اتصاله وعاد إلى الشرفة، فشاهدوا سيارات تعبر من أمامهم وما كانوا يدركون أنها السيارات التي أقلت الكومندوس الإسرائيلي.
دقائق قليلة ورأوا شخصاً يركض آتياً من ناحية سكن القادة الذين اغتيلوا. أراد الملازم أول إيقافه لمعرفة من يكون؟
حمل مسدس فيليب الخازن ونزل جرياً إلى الشارع وتبعه من كانوا معه وكان مع أحد شباب زغرتا مسدسه، فوصلوا إلى الشارع وشاهدوا ذاك الرجل يبتعد عنهم فتبعوه. كانت الإنارة البلدية يومها ضعيفة ولا يمكن تبيان الملامح عن بعد. كان الملازم أول وفيليب الخازن يسبقان باقي رفاقهم وعلى بعد أمتار من ذاك الرجل، صرخ فيه الضابط أن يتوقف. فتوقف واستدار شاهراً مسدسه وهو يقول: سيارة؟ إنتوا السيارة؟ وين السيارة؟ بدا متوتراً كثيراً فخافوا أن يطلق الرصاص عليهم.
لحظة وأبهرت الملازم أول وفيليب أضواء سيارة كانت متوقفة وانطلق منها رشق رصاص أصابهما ووقعا أرضاً. وفيما ذلك الرجل يهم بركوب السيارة التي أطلق منها الرصاص، عاجله الشاب الزغرتاوي من الخلف برصاصتين من مسدسه أوقعته أرضاً بعد أن وقع المسدس من يده.
لم يردّ ركاب السيارة على الرصاص فأصعدوا الرجل الجريح معهم وانطلقوا مسرعين.
على صوت الرصاص تجمّع الجيران ونقلوا الملازم أول وفيليب إلى المستشفى وتبين أنهما أصيبا في قدميهما.
ما قصة ذاك المسدس؟
خلال إفادتيهما في طوارئ المستشفى، أخبرا المحققين عن المسدس الذي وقع من ذاك الرجل.
عاد رجال الشعبة الثانية يبحثون عن المسدس فتبين أن عاملاً في فرن قريب التقطه وسلمه لهم: هو المسدس الذي ظهر في وسائل الإعلام وعليه نجمة داوود.
من هو ذاك الرجل الراكض ليلاً؟
في غمرة الانشغال تلك الليلة بما حصل في فردان، وصلت برقية إلى الشعبة الثانية من متعاون معها في طوارئ أحد مستشفيات بيروت (البربير أو المقاصد) تفيد بوصول جريح مصاب برصاصة في قدمه وبعد نزعها أصر مرافقوه على أخذه معهم فكان لهم ما أرادوا، وكان مُخبر الشعبة الثانية استطاع التقاط صورة له واحتفظ بالرصاصة المستخرجة التي تبين أنها أُطلقت من مسدس الشاب الزغرتاوي.
اختفى ذلك الرجل وبعد البحث في الملفات، تبين أنه من جماعة أبو نضال وشوهد آخر مرة في مطار القاهرة عند ترحيل منفذي عملية قتل رئيس الوزراء الأردني وصفي التل ولم يعرف بعد ذلك أي مكان له.
لماذا كان يركض؟
في العلم العسكري عندما تكون مجموعة في مهمة وعليها الانسحاب لا تنتظر تأخر أحد أفرادها بل تغادر وعلى المتأخر أن يتوجه إلى نقطة محددة تسمى "نقطة تألب".
يبدو أن ذاك الشخص كان مشاركاً في العملية أو من الأدلاء ولسبب ما تأخر بالمغادرة فراح يركض إلى "نقطة التألب" السيارة التي سماها وكان ما كان فلو تم القاء القبض عليه لتبدل كل المشهد.
لماذا قتلوا فيليب الخازن بعد أكثر من سنة؟
في تلك الأيام كانت لعبة "الفليبر" مشهورة جداً، وفيليب من عشاقها وعندما أصيب في قدمه اخترقت الرصاصة جيب بنطاله الممتلئ بالقطع النقدية النحاسية التي يستعملها في لعبة الفليبر فتناثرت في أعلى قدمه التي تمزقت كثيراً وكاد الأطباء يقطعونها. وبقي فيليب طريح الفراش لأكثر من سنة، واستمر يتعالج حتى نهار مقتله.
كيف عرف الفلسطينيون أن فيليب شاهد ما حدث تلك الليلة؟
خلال تجميع خيوط رواية ما جرى تلك الليلة في فردان، تم إطلاع القيادة الفلسطينية على صورة ذلك الشاب لمعرفة أي معلومات عنه؟ فعرفوا بأن فيليب الخازن رأى ما حصل ويجب إسكاته فقتلوه، ولم يعرفوا من كانوا معه فنجوا. هذا ما خلص إليه التحقيق في مقتل فيليب الخازن خاصة بعد العثور على جثة الناطور.
ستبقى عملية فردان التي جرت في نيسان 1973 ورغم كل ما كتب عنها من أكبر ألغاز الشرق الأوسط وقد تمر سنوات وسنوات وتنسج روايات وروايات عما جرى تلك الليلة وعن الاشتباك الذي افتعلته الصاعقة في مخيم ضبيه قبل ساعات من حصول عملية فردان.
هذا الاشتباك الذي أخّر دوريات الجيش في الوصول إلى فردان، لأنه وفق قناعة الشعبة الثانية يومها، أن ما حصل في فردان هو من تداعيات ما جرى في مخيم ضبيه وعندما عرفت بحقيقة ما يحصل في فردان، كان عناصر الكوماندوس قد غادروا.
فهل كان ذاك الاشتباك في مخيم ضبيه مخططاً له ومن ضمن سيناريو عملية فردان؟
على أمل أن يأتي يوم وتكشف كل الحقائق.