• لبنان
  • الأحد, آذار 30, 2025
  • اخر تحديث الساعة : 12:58:58 م
inner-page-banner
مقالات

قوانين بري الانتخابيّة: وطنيّة جداً طائفيّة

صالح المشنوق ـ نداء الوطن

قليلة هي الظواهر السياسيّة الأكثر رداءة من إصرار الأحزاب الطائفيّة على التقدّم بمقترحات "تقدّميّة" تحت شعارات "إصلاحيّة" عنوانها "تجاوز الطائفيّة السياسيّة". لعلّ أبرز مثال على ذلك إصرار حركة "أمل" المتكرّر (إلى درجة الملل) على تقديم اقتراح لتعديل قانون الانتخاب لجعله وفق نطام لبنان دائرة واحدة (مع نسبية طبعاً). ليست المشكلة الأساسيّة هنا سعي الحركة إلى زيادة تأثير القيادات الشيعيّة وأحزابها الطائفيّة على مجلس النواب اللبناني (عبر اختيارهم نواب الطوائف الأخرى)، بل في التحايل والتذاكي تحت شعارات شبه علمانية: الهدف غلبة طائفيّة، بينما الشعار إلغاء الطائفيّة.

طبعاً لا تقبل أي من تلك القيادات إلغاء الطائفيّة السياسيّة في السلطة التنفيذيّة، لأن ذلك يسمح للمسيحيين والسنّة بتشكيل حكومات من دون الشيعة. ولا تقبل حتى بتطبيق الدستور بحرفيّته، وهو الذي يسمح (بل بني لهذا الهدف بالذات بحسب قول العالم الدستوري أرند ليجبهارت) بتشكيل حكومات أكثريّة وأقليّة لا يُمثّل فيها "الممثلون الأصليون" لأي من الطوائف إذا ما شاءت الظروف أن ينتمي هؤلاء إلى الأقليّة السياسيّة في البرلمان. و لا تقبل طبعاً بإلغاء قوانين الأحوال الشخصيّة الطائفيّة، على اعتبار (غير منطقي) أن هذه القوانين "شخصيّة" وليست جزءاً تأسيسياً في النظام الطائفي اللبناني. بل إنها اخترعت حق فيتو طائفي غير دستوري عنوانه أحقيّة الطائفة الشيعيّة بوزارة المال، وهو ما لا أساس له لا في النص ولا في العرف الدستوري. في الحكومة والإدارة والقوانين تفرض أسوأ مظاهر الطائفيّة، بينما في مجلس النواب (حصراً) تسعى لفهم جاكوباني (نسبة للمجموعة الفرنسيّة الثورية الراديكاليّة بعلمانيّتها) للواقع السياسي اللبناني.

إن تبنّي أكثريات طائفيّة في الدول المنقسمة إثنياً لمقترحات "علمانيّة" ليس حكراً على لبنان بطبيعة الحال. له أمثلة كثيرة في الكثير من الدول المعروفة بنظامها التوافقي: البروتستانت تاريخياً في شمال إيرلندا (عندما كانوا أكثريّة)، الشيعة في العراق، المسلمون في البوسنة. في كلّ هذه الدول أحزاب طائفيّة تمثّل الطوائف الأكبر تسعى لتعديلات في النظام السياسي ظاهرها تقدّمي ولكن باطنها غلبة طائفيّة. بطبيعة الحال إذا طرأ أي تغيّر ديموغرافي على حجم هذه الطوائف الكبرى (مثل ما حصل في شمال إيرلندا)، ينقلب المنطق فوراً رأساً على عقب، ويصبح هناك ضرورة للتوافق وعدم الإقصاء الطائفيين. المميّز في لبنان (عكس الدول الثلاث المذكورة أعلاه حيث طائفة واحدة تمثّل أكثر من 50 % من الشعب) والذي يجعل من الطرح هجيناً هو أن الطائفة الشيعيّة اللبنانيّة لا تمتلك أغلبيّة مطلقة، بل إنها عملياً ثالث الطوائف حجما (حسب لوائح الشطب) المسيحيون 1،358،000 ناخب، السنّة 1،170،000 ناخب، والشيعة 1،163،0000 ناخب. ولكنها تمتلك "ميزتين" تدفع قياداتها إلى تبنّي الطرح "التقدّمي": الأول هو أنها تمنع المنافسة السياسيّة - الانتخابيّة داخل صفوفها، والثانية هي أنها تقترع بكثافة تفوق المسيحيين والسنّة (جزء من السبب مردّه لكثرة الاغتراب المسيحي والسني). لذلك فإنها على عكس "طوائف الأكثرية" في الدول الأخرى لا تقبل بإلغاء الطائفية و"القوانين الوطنيّة" إلا في مكان واحد هو مجلس النواب، وترفضها في كل مكان آخر، كمجلس الوزراء!

بغضّ النظر عن أن طرح حركة "أمل" مخالف لاتفاق الطائف (بعد أن صدعوا رؤوسنا بالالتزام به)، هناك شبه إجماع لدى الخبراء الدستوريين والأكاديميين المعنيين في الدول التوافقية بأن قوانين الانتخاب القائمة على الدائرة الواحدة هي أكثر القوانين التي ترسّخ الانقسام الطائفي. الأكاديميون الليبراليون - من أمثال بنجامين رايلي ودانييل هورويتز وجيوفاني سارتوري - اعتبروا أن قانون انتخابات يعتمد الدائرة الواحدة مع نسبيّة في هذه الدول هو بالفعل القانون الأكثر طائفيّة، لأن من ضمن علّاته أنه يلغي البعد المناطقي للانتماءات الذي يشكّل - في ظل غياب أحزاب كبرى لاطائفيّة - المنافس العملي الوحيد للحملات الانتخابيّة التي تقوم على أسس طائفيّة محضة. يقول رايلي إن المجموعات المدنيّة والليبراليّة عليها إثبات قوّتها قبل إقرار قوانين "وطنيّة"، وإلا تحوّلت هذه القوانين إلى عنوان للتمترس الطائفي التقسيميّ. لسخرية القدر، الأكاديمي الأبرز الذي يدعو إلى قانون الدائرة الواحدة مع نسبيّة هو أراند ليبهارت، المعروف بأب "الطائفيّة السياسيّة"، والذي يهدف من خلال دعوته هذه ليس إلى تطوير مفهوم المواطنة بل إلى تطبيق نظريّته القائمة على تمثيل الطوائف بشكل دقيق وفصلها عن بعضها قدر المستطاع عبر "ابارتيد طوعي (voluntary apartheid).

كما أنه في الدول حيث تبرز الانقسامات الطائفية والعرقية واللغويّة، لم يتم أبداً اعتماد عموم البلاد دائرة انتخابية واحدة: من سويسرا إلى كندا مروراً بالبوسنة وشمال إيرلندا وبلجيكا وغيرها الكثير من الدول. الدولة الوحيدة التي اعتمدت هكذا قانون كانت العراق (إبان الاجتياح الأميركي) لكنها ما لبثت أن ألغته (بناء على توصية خبراء الأمم المتحدة) لأنه ساهم في تعزيز الانقسام الطائفي واستبدلته بقانون يعتمد الدوائر المتوسّطة مع نسبيّة (شبيه بقانون لبنان الحالي).

لا مانع من أن يقول قادة الطائفة الشيعيّة الحاليين - أي حركة "أمل" و "حزب الله" - ما هي مطالبهم (أو هواجسهم) في نظام سياسي قائم ولو جزئياً على التوافقيّة الطائفية. حينها يمكن للبنانيين (بعد نزع السلاح ووقف فرض الوقائع المخالفة للدستور الحالي طبعاً) مناقشتها على الملأ، وتقييم مدى أحقّيتها من عدمه. ولكن ما هو غير مقبول، بما أننا نشجع على مبدأ الصراحة ووقف التكاذب المتبادل، هو استبدال غلبة وصاية أجنبية و/أو غلبة سلاح غير شرعي بتغييرات في النظام السياسي تسمح لمجموعة (أياً كانت) بالسيطرة على خيارات أغلبيّة اللبنانيين. وما هو غير مقبول (وأكثر استفزازاً) أيضاً، هو استغباء اللبنانيين عبر تغليف مشاريع غلبة طائفيّة مصطنعة بشعارات تقدميّة وعلمانية ووطنيّة، و كأن بلطجيّة أكثر الأحزاب طائفية بتاريخ لبنان أُنزل عليها فجأة وحي من كاتب الإعلان التأسيسي للثورة الفرنسيّة ماركي دو لافاييت. إرحمونا! 

بوابة صيدا

الكاتب

بوابة صيدا موقع إخباري متنوع ينطلق من مدينة صيدا ـ جنوب لبنان، ليغطي مساحة الوطن، والأمة العربية، والعالمين الإسلامي والغربي.. يقدم موقع (www.saidagate.com) خدمة إخبارية متنوعة تشمل الأخبار السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإسلامية، والمقالات المتنوعة.. تقوم سياسة الموقع على الحيادية، والرأي والرأي الآخر، يستقي الموقع أخباره، من تغطيته للأحداث، ومن وكالات الأنباء العربية والعالمية..

مدونات ذات صلة