قبل 4 أعوام بالتمام والكمال، كان 7 مارس «الأسود»... وفيه دخل لبنان للمرة الأولى بتاريخه نادي الدول التي تتخلّف عن سداد ديونها بإعلانٍ مدوٍّ من رئيس الحكومة حينها حسان دياب، لتوضع البلاد «رسمياً» منذ ذلك اليوم على سكّة «كوابيس» مالية – مصرفية – نقدية – اجتماعية لم تهدأ وكادت أن تودي بالوطن الصغير إلى الارتطام المميت الذي تمت «فرْملته» منذ أشهر ليتجرّع اللبنانيون مُرّه على دفعات من... «الموت البطيء».
وعلى مدى أربعة أعوام، تَقَلَّب لبنان و لايزال على جمر الأزمات، متسلّقاً سلّم «الأسوأ» على مختلف المقاييس العالمية، حتى باتت تستبيحه الأرقامُ الصاعقة «المتسلسلة» عن أكلاف عيشٍ، صار لغالبية اللبنانيين من «قلة الموت»، والتصنيفاتُ الصادمة التي لا تنفكّ تضعه في أسفل قوائم مؤشرات الحياة ونوعيّتها.
وجاء وَضْعُ مدينة بيروت في المرتبة 208 في العالم (على 241 مدينة) والـ16 في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مؤشّر نوعيّة الحياة للعام 2023 (بحسب سهولة ومُرونة العيش والعمل للمُغتربين وعائلاتهم المُقيمين فيها) ليشكّل إشارةً إضافية إلى «الجحيم» الذي يقيم فيه اللبنانيون، وإن كان قسم منهم «تَكيَّف» مع «ناره»، والذي يستعدّون لقفزة إلى قعر جديد فيه بفعل الرسوم والضرائب الفتّاكة التي فرضتْها الحكومة في الموازنة التي أقرّها مجلس النواب من دون التعمق في تأثيراتها المباشرة على المواطنين الذين باتوا في فوهة «ثقب أسود» يتّسع مع كل أعباء ضريبية جديدة «تغذّي» وحشَ التضخم الذي يرفع تكلفة المعيشة بأرقام مُرْعِبة، في غمرة أزمة سياسية – رئاسية مستعصية وشَبَحِ حرب كبرى تحوم فوق «بلاد الأرز» في ضوء الـ «ميني حرب» المشتعلة على جبهة الجنوب منذ بدء «طوفان الأقصى».
فقبل عام وتحديداً في أبريل 2023 كانت تكلفة المعيشة للعائلة اللبنانية (من 4 أفراد) تقارب 39 مليون ليرة (نحو 438 دولاراً) وذلك من دون احتساب الصحّة والاستشفاء، بينما راوحتْ هذه التكلفة في أكتوبر 2022 بين 20 مليون ليرة و26 مليوناً. وهذا يعني ارتفاعاً خلال ستة أشهر بنسبة ما بين 95 و196 في المئة.
لكن أرقام التضخم على هوْلها لم تقف عند هذا الحدّ، إذ استمر ارتفاع تكلفة المعيشة للعائلة ليبلغ وفق آخِر إحصاءات «الدولية للمعلومات» إلى 52 مليون ليرة شهرياً (582 دولاراً) في القرية، وإلى 71 مليون ليرة (794 دولاراً) في المدينة وذلك في بداية فبراير 2024. وهذه الأرقام مرشّحة لأن تشهد قفزةً جديدةً مع بدء تطبيق الضرائب التي لحظتْها موازنة السنة الحالية.
وفي حوار مع الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين أردْنا التعمق أكثر في ما تعنيه هذه الأرقام بالنسبة للعائلات اللبنانية وكيف يمكن التوفيق بينها وبين مدخول العائلات. وفي نظرة عملية وسريعة على جدول التكلفة المعيشية التي تواجهها عائلة مكوّنة من أربعة أفراد يتبيّن أن الأرقام هي أقلّ من الواقع وتلحظ تقشفاً كبيراً يصعب على العائلات الالتزام به لأنه بالكاد يؤمّن الحد الأدنى من احتياجاتها.
فالرقمان 52 مليون ليرة شهرياً في القرية و71 مليوناً في المدينة لا يعبّران إلا عن الحد الأدنى لاحتياجات العائلة فيما الواقع اليومي قد يتخطى هذه الأرقام بكثير.
ويقول شمس الدين: «إن تكلفة المعيشة سترتفع ما بين 20 إلى 25 في المئة في الأسابيع المقبلة حتى ولو بقي سعر الدولار ثابتاً (على نحو 89500 ليرة)، لأن الرسوم و الضرائب التي لحظتْها الموازنة ستنعكس على مختلف نواحي الحياة، إذ لا يمكن أن ترتفع التكلفة في مكان ما إلا ويكون لها تأثير مباشر على الدورة الاقتصادية ككل».
وهنا يعطي الباحث الاقتصادي مثالاً بقوله إن زيادة رسم الميكانيك على سيارات النقل مثلاً سيدفع بصاحبها لإضافتها على سعر السلعة، والأمر نفسه ينطبق على سعر صفيحة البنزين التي ازدادت بنسبة 8 في المئة تدريجاً ما يجعل كل أسعار السلع والخدمات تتأثر وترتفع.
ويورد مثالاً آخر على الزيادات قائلاً «إن الجريدة الرسمية ارتفع اشتراكها من 750000 ليرة الى 15 مليون ليرة ما يعني أن المحامين الذين ينشرون فيها أحكاماً سيتكبّدون تكلفة أعلى، وهكذا دواليك.
فحتى الرسوم البلدية التي أوقفها المجلس الدستوري ستنعكس سلباً على الأسعار بعد أن تُقر الزيادة عليها.
وهذا الارتفاع في أسعار السلع يشمل المُنْتَجة محلياً كما المستورَدة لأن هذه الأخيرة أيضاً تخضع للارتفاع العالمي نتيجة ما يَحدث في البحر الأحمر ولارتفاع أسعار الشحن والنفط والمواد الأولية عالمياً».
من هنا فإن هذه الأرقام المتقشّفة، والتي يمكن أن تكون في الواقع أعلى مما هي عليه، تكاد تكون فوق طاقة 50 في المئة من العائلات اللبنانية ولا سيما الفئات التي لاتزال تتقاضى رواتبها بالليرة اللبنانية من دون أن تشهد تصحيحاً يوازي التضخم الحاصل وارتفاع الاسعار بل بقيتْ دونه بكثير.
إذ في افضل الأحوال لم يستعد سوى 15 الى 20 في المئة من الأُجَراء قدرتهم الشرائية بشكل شبه كامل، وذلك بحسب تقديرات أعدّها البروفسور كمال حمدان، فيما غالبية الموظفين الرسميين لم يكونوا استعادوا، قبل الزيادات الجديدة والحوافز الأخيرة التي أُقرت نهاية فبراير إلا ثلث القوة الشرائية، هذا من دون احتساب التكلفة الاستشفائية والتعليمية التي باتت تفوق قدرة الكثير من الموظفين.
ومعلوم أن هذه الزيادات لحظتْ إعطاء الموظّفين والعسكريين في الخدمة ما بين راتبيْن إضافييْن وثلاثة (حيث يصبح مجموع ما يتقاضونه 9 رواتب شهرياً انطلاقاً من الراتب الأساسي) مع رفْع بدل النقل والحضور وصرف مكافآت مثابرة بشروط محدَّدة، بحيث بات متوسط دخلهم بين 350 و860 دولاراً. أما المتقاعدون فخُصِّصوا بزيادة 3 رواتب إضافية بحيث صار دخلهم نحو 220 دولاراً.
ويؤكد شمس الدين، أن المتقاعدين وصغار موظفي الدولة والأساتذة العاملين في المدارس الرسمية وبعض المدارس الخاصة إضافة الى العاملين في المصانع الصغيرة والعمل الزراعي هم الأشدّ تأثراً نظراً الى التفاوت الكبير الحاصل بين مدخولهم وارتفاع كلفة المعيشة.
والسؤال الذي يَطرح نفسه هنا: كيف يمكن لهذه العائلات تأمين 52 مليون ليرة شهرياً لمواكبة التكلفة التقشفية الأدنى للحياة؟
الجواب الأبسط أن العائلات الأكثر فقراً تعاني في تأمين خبزها اليومي وهي لا تأكل القدر الكافي، فيما ثمة عائلات تعتاش من بعض التحويلات التي تردها من الخارج او تعمل على بيع ما تملكه، هذا إذا كانت تملك شيئاً في الأصل.
ويرى أن أرباب العائلات باتوا مضطرين للعمل في أكثر من وظيفة ومكان ومهنة لتأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة وذلك بشكل شرعي أو غير شرعي.
وفي حين حصرت الدراسة التي أعدتها «الدولية للمعلومات» تكلفة المعيشة بالأساسيات، من مسكن ومأكل واتصالات وتنقلات وكهرباء وماء وتدفئة إضافة الى التعليم والنقل المدرسي، إلا أنها لم تذكر الأهمّ وهو تكلفة الطبابة والاستشفاء التي تكاد تشكّل معضلةً حقيقيةً في بلدٍ كان يُعتبر مستشفى الشرق.
واحتساب التكلفة الصحية يشكّل أزمة في ذاتها حتى بالنسبة للباحثين، في غياب التقديمات التي كانت تؤمّنها وزارة الصحة والضمان الاجتماعي وتفلُّت الأسعار في المستشفيات وغياب الرقابة الصارمة عنها.
ويقول شمس الدين «إن التأمين الصحي بات اليوم بديلاً عن الخدمات الصحية التي كانت الدولة اللبنانية تقدمها من خلال مؤسساتها الضامنة ووزارة الصحة. واليوم يمكن اعتبار متوسط تكلفة التأمين للشخص الواحد 1500 دولار في السنة أي 6000 دولار سنوياً بالنسبة لعائلة مكوّنة من أربعة اشخاص. وإذا قسمنا هذا المبلغ على 12 شهراً تصبح التكلفة الشهرية 500 دولار ما يعني أنه يجب احتساب 44 مليون ليرة إضافية فوق الكلفة الشهرية للمعيشة وهي 52 مليوناً».
أرقام مخيفة لا تبشّر بالخير لا سيما مع تراجع النمو الاقتصادي الذي كان يُعوّل عليه لاسترداد العافية الاقتصادية نتيجة الحرب الدائرة رحاها في الجنوب اللبناني واستمرار العشوائية في ما خص مقاربات المعالجات السليمة لأموال المودعين وللأزمة النقدية، كما بفعل التخبط الضريبي الذي يسعى لتعويم واردات الموازنة على حساب الناس. هذا دون ذكر جشع التجار والمستوردين وتخبط برامج الحماية الاجتماعية وعدم تأمين التمويل الكافي لها.
وفي الإطار، أعلن وزير الشؤون الاجتماعية هكتور حجار خلال مؤتمر صحافي في أواخر يناير 2024 أن ثمة مشكلة في خفض التمويل من الدول المانحة بالنسبة للبرنامج الوطني لدعم الأسر الأكثر فقراً (بطاقة الشؤون) وأن المبلغ الذي تم تأمينه هو 33.3 مليون دولار فقط بينما المبلغ الذي تحتاج إليه الوزارة لتأمين المساعدة لـ 75000 أسرة هو 150 مليون دولار خلال 2024.
وقال «اضطررنا أيضاً لإجراء ما يشبه العملية الجراحية، وتعديل المساعدات، وأنا أعرف مسبقا أنها ستتسبب بزعزعة الاستقرار الاجتماعي. وأود أن أوضح للأسر المستفيدة من البرنامج أنه لن يكون هناك دفعة عن شهر يناير 2024، بل سيكون هناك دفعة في آخر شهر فبراير عن شهرين. ثم دفعة في أبريل ودفعة في يونيو. والتغييرات المتعلقة بالمبلغ أصبحت مقسمة كالآتي: 20 دولاراً عن العائلة بدل 25 دولاراً، وسنعطي 5 أفراد كحد أقصى بدل 6 أفراد في الأسرة، وسنعطي 10 دولارات للفرد الواحد بدل 20 دولاراً». إذاً حتى المساعدات الضئيلة التي كانت الأُسر الأكثر فقراً تعول عليها باتت على تَراجُعِ في ظل ارتفاع مستمرّ في الأسعار. والبحصة التي كانت تسند خابيةً صارت فتاتاً ينذر بتدحْرج الخابية وانهيار ما فيها.
(الراي ـ زيزي اسطفان)