• لبنان
  • الجمعة, تشرين الثاني 22, 2024
  • اخر تحديث الساعة : 11:21:23 م
inner-page-banner
مقالات

جُثّتان مُقطَّعتان وإعدامُ القاتل... جريمة الصنائع لا تنسى

(جيمي الزاخم ـ نداء الوطن)

حديقة الصنائع - بيروت. يوم الأحد 2 كانون الأول 1979. عُثر على رأس امرأة داخل كيس طحين. مفصول عن الجسد... هذا أوّل سطر دُوِّن في محضر جريمة هزّت المجتمع. وما زالت تُعدّ على أصابع أبرز الجرائم وأشنعها. إبراهيم طرّاف - تلميذ حقوق- قتَل ماتيلد الحلو وابنَها مارسيل باحوط. قُطّع الجسدان. ووُزِّعت أشلاؤهما على مكبّات أحياء بيروتيّة.

استُوحِي من هذه الحادثة للإبحار في العالم الرّوائي أو الفنّي. أمّا يوسف سلامة، فوثَّقها في كتابه «جريمة في البيت». رواية وثائقيّة نشرتْها «دار نلسن» عام 1994. لم تصدرْ بطبعات جديدة. عثرنا على طبعتِها اليتيمة. دخلنا مئتي صفحة مدبوغة بزمنٍ مضى وبقي. عاش مع ذكرى الدّم، الخوف، المحاضر والحقائق. بين النَّفَس الرّوائي الصّحافي وبين التفاصيل التّوثيقيّة، تنقّلت الأسئلة. وَوَصلت بعضُ الأجوبة عن جريمة بدأت في حديقة الصنائع. ولم تنتهِ سيرتُها مع إعدام إبراهيم طرّاف في الحديقة نفسها في 7 نيسان 1983.

يحصل سلامة على محاضر التحقيق. يجمعُها. يُوضّبها. يقدّمها بين الخيال والواقع. يحاول الإحاطة بمشهديّاتٍ يوميّة عن عمل الأجهزة الأمنية، الأدلة الجنائيّة، القضاة، المحامين، الشهود، مع آراء طبّية وقانونية. وعلى مسرح الحياة والموت، تُسرَدُ ملامحُ سيرة الضّحيتيْن والجاني.

في التفاصيل: بعد 4 أيام من العثور على الرأس المقطوع وجمع أجزاء متناثرة من الجسدَيْن، اكتُشفت هويّةُ الجثّتين. أحد القاطنين في المبنى نفسه، أبلغ عن اختفاء مدرِّس أولاده. من هنا، بدأت عوالم الحكاية والحقيقة تقترب من مكان الجريمة. وصل قائدُ سريةّ بيروت بصحبة العناصر الأمنية إلى العمارة. أفادهم الجيران أنّهم سمعوا صراخ مارسيل ليلَ الجمعة السبت: «يا ماما، يا ماما». دخل المحققّون شقةَ آل باحوط. التقوْا بالشاب إبراهيم طرّاف المستأجِر إحدى الغرف في المنزل. على جسده، آثار كدمة وضربة. وعلى الجدران، بقعتا دم. ادّعى ابراهيم أنّهما من مخلّفات البويَا.

حسب ما ورد في إفادته الاولى، عمره 32 سنة. عازب. انتقل من الجنوب إلى بيروت. يدرس في كلّية الحقوق - الجامعة اللبنانية. يعمل لدى كاتب عدل. عانى مع عائلته. أنجبه والدٌ ثمانينيّ تزوّج من أمّه القاصر. وجد تعويضاً في آل باحوط. وصف علاقته مع ماتيلد كعلاقة الابن مع أمّه. زعم أمام المحقّقين بأنّ ماتيلد أبلغتْه بأنّها ستغيب وابنها في زيارة لأقاربهما في بيروت الشّرقية.

في المشرحة، تعرّف طراف على الجُثّتين. وبعد 34 ساعة من إفادته الأولى، غيّر إبراهيم أقوالَه: مجموعة مسلّحين تابعين للمنظّمة العربية اقتحمت المنزل. وتحت التهديد بالسلاح، أجبروه على مساعدتهم في قتل الأمّ. ثمّ لقي الابنُ المصيرَ نفسه. يتابع روايته: مذعوراً، ذهب إلى منزل شقيقته. أخبرها وزوجها عمّا حصل. طلب المبيتَ عندهما. رفضا. فعاد إلى الشقة. لاحقاً، بدّل إبراهيم تفاصيل هذه الرواية. غيّر مفاتيحَها وأبوابها. أمّا صهره، فقال إنّ ابن حميه أطلعهم على مشاجرته وماتيلد بعد مطالبتها له بمغادرة الشّقة. هدّدتْه. فقتلَها.

بعد 7 ساعات من إفادته الثانية، اعترف طرّاف بارتكابه الجريمة. روى تصادمه مع ماتيلد. كشف عن تقطيعه الجثّتيْن بمفرده، بعد رفض صهره مؤازرتَه. اشترى 17 كيساً فارغاً من الطحين. رماها والأشلاء في المكبّات المجاورة. بعدها، تراجع عن هذا الاعتراف. برّره بتهويل وضغط المحقّقين. وطيلة جلسات المحاكمة، بقي على تعنّتِه وروايته الأولى عن اقتحام مسلّحين المنزل. وبقي الخنجر والمنشار مفقودَيْن.

تعدّدتْ الفرضيات حول الدّافع الرئيسي للجريمة. حكى طرّاف أنّ ماتيلد هدّدتْه بالقتل على يد أحد الأحزاب. وهنا، ارتدت مقالاتٌ وأحاديثُ الناس النزعةَ الطائفية بين بيروت الغربية والشّرقية. وعلى طاولة الحكاية، وُضعت شكوك حول تأثّر إبراهيم بعالم الأرواح والجنّ. سبق وصدّق بصّارةً أرشدتْه إلى كنز مدفون في حديقة منزله الجنوبيّ. حفرَ وصهرُه دون نتيجة. وسعى للحصول على دم قتيل طازج، إيماناً منه أنّه يساعد على استحضار الجنّ. وفي مقلب آخر من الدوافع، أثار شهودٌ مسألةَ إصابة الجاني بالهَوَس الجنسيّ. فحامَتْ أسئلة حوله وماتيلد الستّينية. كانت تهتمّ بجمالها. وتظهر أصغر بكثير من عمرها. غير أنّ كلّ ما سبق من فرضيات بقي كلاماً. لا دليلَ عليه. لا يعتبرُه القانون بيّنةً وخاصّة في ما يتعلّق بالعلاقة الجنسيّة أو الاغتصاب. ومع أنّ الطبيب الشرعي كتب في تقريره عن ملاحظته سائلاً منويّاً داخل مهبل المرأة، لكنّه تراجع. وصحّح قائلاً إنّه رأى سائلاً ذا لون أبيض مائل إلى أصفر يشبه السائل المنويّ. وفي جلسات التمييز، فُسّر هذا التبدّل بنظريّة أنّ الجثة نُقعت بمادة الفورمالين التي تيبّس الجسد و تعطّل تواجد السائل.

وُضع طرّاف تحت المجهر العقليّ- النفسي. اللّجنة الطبيّة الأولى شخّصت شخصيّته بالبارانويديّة. تنفجر فجأة بشكل عدائيّ وعنيف. يفقد الإرادة والوعي لأتفه الأسباب. أمّا اللّجنة الثانية، فجزمت في تقريرها بعدم وجود مرض عقليّ. وتحدثت عن سيطرة هاجس الاعتداء والموت على الجاني الذي يخفي غواية جنسية ذات نزوات مفرطة منحرفة غير مقبولة ذاتياً واجتماعياً. ورفضت المحكمة تعيين لجنة ثالثة تبتّ بالتناقض بين تشخيص اللّجنتين. وفي حزيران 1980، أصدرت حكمَها. وحكمت عليه بالإعدام.

في آذار 1983، جاء حكمُ محكمة التمييز متطابقاً مع حكم محكمة الجنايات. وفي السادس من نيسان، أصدر رئيسُ الجمهورية أمين الجميل مرسوماً قضى بتنفيذ الحكم في اليوم التالي في مكان الجريمة، أيْ في حديقة الصنائع. منها انطلق السّرد، وإليها يعود. مع الفجر، وقبل أن تتمَّ الشمس شروقَها، كان كلّ شيء قد تمّ. مواطنون حضروا. موتٌ ينتظر. وحبل أحمر يحاصر الرّقبة. إبراهيم منهار. يصيح: «أنا بريء». ينده: «يا إمّي وينك». وفي لحظته الأخيرة، يصرخ: «الله أكبر».

كلُّ هذا وبيروت مشتعِلَة مشلَّعة. اشتباكات، مجازر، قنص. نارُ المعارك تتأجّج. وزيت الطائفية يُصبّ على كلّ صغيرة وكبيرة. لم يُفصلْ توقيتُ الإعدام عن ظروف البلاد السّياسية وعن دولة تُلملم هيبتها المسلوبة. فطَبّقت، على المَلَأ، عدالتها وشرعيّتها. ونفّذت حكم إعدام واحداً من أصل العشرات الصّادرة حينَذاك. فضاعف تنفيذُه الوميض حول هذه الحادثة. أُغلقت القضية. أُقفلت أبوابُ بيوت على أصحابها وبوّابات مقابرهم. ورويداً رويداً، سنة بعد سنة، باتت كحكاية. في زواريبها، يلعب الفضول مع أسئلةٍ تخصّب الخيال عن جريمة كتبت صفحة من صفحات مدينة وبلاد.

صدر الكتاب عام 1994

بوابة صيدا

الكاتب

بوابة صيدا موقع إخباري متنوع ينطلق من مدينة صيدا ـ جنوب لبنان، ليغطي مساحة الوطن، والأمة العربية، والعالمين الإسلامي والغربي.. يقدم موقع (www.saidagate.com) خدمة إخبارية متنوعة تشمل الأخبار السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإسلامية، والمقالات المتنوعة.. تقوم سياسة الموقع على الحيادية، والرأي والرأي الآخر، يستقي الموقع أخباره، من تغطيته للأحداث، ومن وكالات الأنباء العربية والعالمية..

مدونات ذات صلة