بقلم د. وسيم وني - عضو نقابة الصحفيين الفلسطينيين ـ بوابة صيدا
منذ أكثر من عامين، يرزح آلاف الأسرى من أبناء شعبنا الفلسطيني خلف أسوار السجون الإسرائيلية في عزلةٍ تامة عن العالم الخارجي وذويهم،وخاصة بعد أن فرضت سلطات الاحتلال منع اللجنة الدولية للصليب الأحمر من زيارتهم، لتطوي على أعين العالم فصلاً من فصول العذاب والقهر الإنساني.
قرار المنع لم يكن إجراءً مؤقتًا أو “احترازيًا أمنيًا”، كما تدّعي المنظومة الإسرائيلية، بل كان غطاءً ممنهجًا للتستر على انتهاكات تُمارس بشكل شبه يومي ضد أسرانا البواسل، بدءًا من التعذيب الجسدي إلى القهر النفسي، مرورًا بحرمانهم من الغذاء والعلاج، وصولًا إلى الإعدام البطيء الذي بات وسيلة عقاب خفية يستخدمها السجان ضد أسرانا بدون أي رحمة أو حساب.
المنع المتعمد.. محاولة لطمس الحقيقة
إنّ إصرار قوات الاحتلال على إبقاء الأسرى في عزلةٍ تامة عن العالم الخارجي ماهو إلا دليل قاطع على أنّ ما يجري داخل المعتقلات لا يحتمل الضوء ، فزيارات الصليب الأحمر ليست امتيازًا إنسانيًا، بل حقّ مكفول بموجب المادة (126) من اتفاقية جنيف الثالثة التي تنصّ على وجوب السماح لمندوبي اللجنة الدولية بزيارة أسرى الحرب ومراقبة ظروف احتجازهم دون قيود.
ويُعد منع هذه الزيارات انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني، وجريمة تضاف إلى سجل الاحتلال الحافل بالانتهاكات والإجرام الممنهج ، فلو كانت السجون “ملتزمة بالمعايير الإنسانية” كما يدعي كيان الاحتلال، فلماذا هذا الهروب الدائم من أعين المراقبين الدوليين؟
إبادة داخل القضبان
تشير شهادات الأسرى المحررين إلى مشاهد يصعب تصديقها: تعذيب حتى الموت، تجويع متعمد، عزلٍ لأسابيع وأشهر، وحرمان تام من العلاج الطبي ، وقد استُشهد أكثر من 80 أسيرًا خلال العامين الأخيرين، وفق ما وثقته المؤسسات الحقوقية الفلسطينية والدولية ، بينما بقي عدد غير معروف من الأسرى مجهولي المصير.
هذه الجرائم لا يمكن توصيفها إلا بأنها جرائم ضد الإنسانية، وفقًا للمادة (7) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، التي تجرّم القتل والاختفاء القسري والتعذيب الممنهج عندما تُمارس في إطار سياسة عامة.
تواطؤ قضائي وغطاء سياسي
المفارقة الأساسية هنا أن المحكمة العليا الإسرائيلية، التي يُفترض أنها عنوان عريض لما يسمى بالعدالة كما تدّعي، تحولت إلى غطاء قانوني لانتهاكات السجون، إذ أجّلت عشرات المرات الالتماس المقدم من منظمات إسرائيلية للمطالبة بعودة زيارات الصليب الأحمر، وهذا الصمت القضائي ليس مجرد إهمالٍ، بل تواطؤ واضح يجعل القضاء الإسرائيلي شريكًا في الجريمة بشكل لا ريب فيه والهدف الرئيسي طمس كل الأدلة التي تنتهجها الحكومة الاسرائيلية ضد أسرانا البواسل.
ومع تصاعد الدعوات داخل الكنيست لسنّ قانون يسمح بإعدام الأسرى الفلسطينيين وإنشاء محاكم عسكرية خاصة، يتضح أن الاحتلال يسعى إلى تشريع الإبادة ضمن منظومته القانونية ولكن هذه المره ضمن السجون، في سابقة خطيرة تمس جوهر العدالة والإنسانية الدولية.
شهادات تُدين الصمت العالمي
الصور التي خرجت مؤخرًا لجثامين الأسرى الذين سُلّمت جثثهم إلى ذويهم في غزة تُشكّل دليلًا دامغًا على ما يجري في الخفاء: أجساد محروقة، أيدٍ مقيدة، وعيونٌ مغطاة بالقماش في مشهد يجسد إرهاب الدولة المنظم ضد أبناء شعبنا الفلسطيني ، وهذه ليست “حالات فردية” كما يروّج الاحتلال، بل سياسة عامة هدفها كسر إرادة الأسرى، وطمس الحقيقة عن الرأي العام العالمي الذي اكتفى بالمشاهدة، فلقد تحوّلت السجون الإسرائيلية إلى مختبرات للتجارب النفسية والجسدية، في خرقٍ سافرٍ لكل المواثيق، ومنها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة 10) الذي يؤكد أن “كل من يُحرم من حريته يجب أن يُعامل معاملة إنسانية تحترم كرامته المتأصلة”.
مسؤولية الصليب الأحمر والمجتمع الدولي
الصليب الأحمر، وهو الجهة المخوّلة قانونيًا بمراقبة أوضاع الأسرى، فقد بات اليوم أمام اختبار مصداقيته، فصمته المتواصل يشجّع الاحتلال على التمادي في جرائمه، ويحوّل الحياد الإنساني إلى تواطؤ غير معلن، كما أن عدم اتخاذ موقف حازم وعلني تجاه المنع الإسرائيلي، يعني القبول الضمني بسياسة “الإخفاء القسري الجماعي” التي تُمارس بحق الأسرى الفلسطينيين منذ أكتوبر 2023.
إن ما يجري اليوم في سجون الاحتلال يستوجب تحركًا فوريًا من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وتشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة للكشف عن ظروف الاعتقال والتعذيب والإعدام الميداني ، كما يجب على المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيق رسمي في هذه الجرائم باعتبارها جزءًا من جريمة الإبادة الجماعية المستمرة ضد شعبنا الفلسطيني، التي لم تتوقف عند حدود غزة، بل امتدت إلى الزنازين المغلقة خلف الجدران.
ختاماً ما يُرتكب في السجون الإسرائيلية اليوم ليس مجرد انتهاكات فردية، بل سياسة ممنهجة لقتل الإنسان الفلسطيني ببطء وصمت، في ظلّ عالمٍ فقد إنسانيته وحقوقه وقوانينه ، وإنّ الصمت الدولي على هذه الجرائم هو شراكة في الدم، وإنّ استمرار منع الصليب الأحمر من دخول السجون هو وصمة عار على جبين المجتمع الدولي الذي يتغنى بالحرية والعدالة ، لكن رغم كل هذا القهر، يبقى أسرانا البواسل عنوان الكرامة، يقفون في وجه الجلاد بصلابة لا تنكسر، ليقولوا للعالم:
“قد تسجنون أجسادنا، لكنّكم لن تسجنوا الوعي ولا تُطفئوا نور العدالة.”