عبد الباسط ترجمان ـ بوابة صيدا
إذا أردنا أن نتكلم عنه فلا تكفي الكلمات، فقد كان رحمه الله أكبر من أن يتكلم عنه أمثالي، فهو الذي علمني كيف أحفظ كتاب الله تعالى، وهو الذي قاد المجموعات للتدريب، وهو الذي تركنا ورحل حاملاً معه لقب الشهيد " نحسبه كذلك والله حسيبه " فإلى رحمة الله ورضوانه وجناته يا محمد علي الشريف.
في عام 1951م ولد محمد علي الشريف من أب فقير يعمل بستانياً، دخل مدرسة فيصل ولكن سرعان ما خرج منها، فهو لم يكمل الصف الرابع الابتدائي...
تعلم صناعة الحلويات، وفتح محلاً صغيراً له داخل صيدا القديمة، ولكنه كان يحب ويعشق حمل السلاح والقتال... وما هي إلا برهة من الزمن وإذ بالعمل الفدائي الفلسطيني ينتقل إلى لبنان، فالتحق بالجبهة العربية، وسافر إلى العراق في مهمة تدريبة، وعاد إلى لبنان مدرِباً لا يضاهيه أحد من أقرانه....
في عام 1969م توجه مع مجموعة لقتال العدو الصهيوني في منطقة العرقوب، فاستشهد الجميع إلا محمد وثلاثة آخرين... دخلوا غاراً ومكثوا فيه اياماً يأكلون من حشائش الأرض، فلما هدأت الأمور عادوا إلى مدينة صيدا، وقد تلونت شفاههم باللون الأخضر، فلما سألته اخته أخبرها بما جرى معهم...
وفجأة انقلبت حياته، وبدأ يسير بخط مغاير تماماً... ماذا جرى؟
كان الشيخ محرم العارفي رحمه الله كلما مر به يطلب منه الذهاب معه إلى المسجد، ولكن دون جدوى، رأه الشيخ خليل الصيفي في الطريق فقال له: يا عبد الله ادخل إلى المسجد وصلِ لله، تفوز بالدنيا والآخرة.
نظر إليه محمد علي وقال له: لا أعرف كيف أؤدي الصلاة.
فقال له ادخل وانا أعلمك.
دخل المسجد... تعرف على شباب المسجد.. ونشأت بينهم علاقات أخوية ...
بدأ يسمع إلى كلمات الشيخ محرم العارفي رحمه الله، فتعلق قلبه به وأحبه كثيراً ....
وهنا بدأت حياة محمد تتغير، فالويل كل الويل لمن سمعه يشتم رب العزة سبحانه وتعالى، ففي يوم أثناء مروره في حي الكنان، وإذ بمجموعة شباب يسبون الذات الإلهية، فسألهم لماذا تكفرون؟
فردوا عليه: ما شأنك أنت؟
فما كان منه إلا أن ضرب الشباب الأربعة، فلما عجزوا عن مواجهته فروا من أمامه.
وكذلك كان رحمه الله يساعد الناس، فقد مر يوماً بإمرأة عجوز تجادل بائع بطيخ وتقول له: أنت قلت " أن البطيخة مش قرعة بس طلعت قرعة فأعد لي مالي" فكان يرد عليها البائع لن أعطيكِ شيئاً، فتدخل محمد علي وأعطى المرأة ثمن البطيخة من ماله الخاص، وطلب منها أن تدعو الله له.
وبدأ محمد علي يستغل مواهبه وفنونه القتالية في تدريب الشباب الملتزم، فأنشأ شباباً يستطيعون الدفاع عن دينهم وأرضهم وعرضهم.
فقد كان يذهب بهم إلى الملعب البلدي لتأدية الحركات الرياضية، إذ أنه مؤمن أن الرجل العسكري لا بد أن يكون متمتعاً ببدن رشيق حتى يكون جندياً ناجحاً في خدمة دينه.
في يوم اثناء التدريبات الصباحية، نظر محمد علي وإذ بعامود خشبي عريض القاعدة ضيق الرأس فصعد عليه وقدر الله ان ينكسر العامود فيقع على الأرض لتُكسر قدمه ويجلس على سريره مدة من الزمن.
عمل محمد علي في عدة مهن ليتكسب منها لقمة عيش كريمة، منها الحلويات، النجارة في منجرة الحاج محمد بطاح، وفي معمل صفا، ثم عمل على البيك آب، ثم سائق باص الإيمان.
وكان أثناء عمله داعية إلى الله تعالى: ولي وقفة معه أنا "عبد الباسط ترجمان" كاتب هذا المقال أثناء عمله سائقاً في مدرسة الإيمان.
كنتُ تلميذاً في هذه مدرسة الإيمان، وكان محمد علي يعمل سائقاً للباص الذي ينقلني منها وإليها، فكان في كل يوم جمعة عند الساعة التاسعة صباحاً يأتي إلى الحي الذي أسكن فيه فيأخذني واثنين آخرين معي من طلاب مدرسة الإيمان إلى منزله "نزلة حي البعاصيري" ويبدأ بتحفيظنا القرآن الكريم، فقد حفظتُ على يديه سور من جزء عم، وكان في كل يوم يُجلسنا نحن الثلاثة امامه ويطلب منا أن نسمعه ما حفظنا، وكان رحمه الله يقول لي: " إن شاء الله بدي شوفك عم تنافس الشيخ عبد الباسط عبد الصمد"
دخلت القوات الإسرائيلية إلى لبنان، فهب محمد علي ومجموعة من الشباب المسلم للدفاع عن دينه وأرضه وعرضه، فحملوا السلاح واستبسلوا في قتالهم ولقنوا العدو الصهيوني دروساً لا ينساها على مر التاريخ ...
فكان محمد يعمل بصمت، لا يثير الانتباه... ومع ذلك كان البعض يتوجس منه خيفة، فحين سكن في منطقة مغدوشة أراد مالك المنزل أن يعرف إن كان محمد علي من الذين يقاتلون اليهود أو مواطن عادي، فوضع شريطاً كهربائياً وأخبره بأن الشريط سينفجر ثم صرخ بأعلى صوته فأوهمه محمد أنه خائف فزع فاطمأن الرجل.
ولكن هيهات أن يقبل محمد علي بالمحتل على أرضه، فكثف تدريباته للشباب، حتى أصبح محمد علي وبعض الشباب الآخرين على قائمة المطلوبين للعدو الصهيوني، وجاء اليوم الموعود، يوم الاستشهاد، يوم يفرح به المؤمن والكافر، يفرح المؤمن لما يرى من النعيم الدائم والرضا من الله سبحانه وتعالى ويفرح الكافر لمقتل من أقلقه وانهك قواه البدنية والعسكرية.
كان محمد علي يسكن في منطقة القياعة طريق النافعة، وكان دائماً يأوي في منزله المجاهدين، ففي يوم الثلاثاء السابع والعشرين من شهر كانون الأول من عام 1983م، طُرق باب منزل محمد علي، من الطارق؟
جيش الدفاع الإسرائيلي.
انتظروا حتى ألبس ثيابي، طلب من زوجته أن تدخل مع أولاده إلى غرفة النوم، ثم حمل محمد علي سلاحه وكان معه جمال الحبال ومحمود زهرة، فتح الباب فقال له العسكري: " الضابط يريد محادثتك؟"
فقال له محمد علي: خلي الضابط " يجي ويحكيني " يأتي ويكلمني.
فدخل الضابط "برتبة مايجور" إلى المنزل وبرفقته أربعة عساكر ظناً منه أن محمد علي سيتعاون معهم، وما أن وطأت قدم الضابط المنزل حتى أطلق عليهم النار فأرداهم جميعاً، وخرج جمال الحبال ومحمود زهرة إلى البستان المحيط بالمنزل وبدءا بإطلاق النار من البستان فسقط حوالي عشرين جندياً بين قتيل وجريح... وكعادة الجيش الإسرائيلي عندما يعجز عن المواجهة يتدخل سلاح الجو... واستطاع العدو القبض على محمد علي، بينما استشهد جمال الحبال ومحمود زهرة، ولكن الله سبحانه وتعالى قد كتب له الشهادة، فما كان من جنود الاحتلال إلا أن أطلقوا النار على وجهه فوقع شهيداً نحسبه كذلك والله حسيبه.
وباستشهاد هؤلاء تنفس العدو الصهيوني الصعداء، إذ انه استطاع ان يقتل قائداً عظيماً وما علم أن موت القائد يولد في الأمة آلاف القادة الآخرين.
فرحمة الله عليك يا محمد علي، يا من علمتني كيف أحفظ القرآن، كم نحن بحاجة اليوم لأمثالك، في زمن قل فيه الرجال، وتمادى العدو وصال وجال، فموعدنا إن شاء الله عند الله في الجنات.
ــــــــــــ
إقرأ أيضاً