بوابة صيدا
في الثاني عشر من كانون الأول عام 1098م (10 محرم 492هـ) لم تعد معرة النعمان مدينةً تجاريةً نابضةً بالحياة في شمال سوريا، بل تحولت إلى جحيم مفتوح.
لم يكن دخول الصليبيين إليها مجرد استيلاء عسكري اعتيادي، بل كان فصلاً من الرعب تجاوز كل حدود الحرب. بينما كان الجوع يضرب المعسكر الصليبي بعد حصار أنطاكية، تحولت شهوة الذهب والطعام إلى سلاح إبادة جماعية.
لم يكتفِ الغزاة بذبح الآلاف من الرجال والنساء والأطفال في شوارع المدينة، بل امتدت أيديهم إلى جثث ضحاياهم. اشتدت الظنون وسيطرت الوحشية، فظنوا أن أهل المدينة ابتلعوا دنانيرهم الذهبية خوفاً من السلب، فما كان منهم إلا أن شقوا بطون الأبرياء - أمواتاً وأحياءً - يفتشون عن كنزهم الوهمي.
مشهدٌ مروع جعل من "معرة النعمان" اسماً يُختزل فيه كل معنى البربرية، وشهادة أبدية على أن بعض فصول التاريخ كتبت بأحرف من دم وهمجية لا تُنسى.
وصل الجيش الصليبي، بقيادة شخصيات بارزة مثل "ريمون دي سان جيل" كونت تولوز، و بوهيموند الأول (بهمند) أمير أنطاكية، إلى أسوار معرة النعمان في أواخر تشرين الثاني / نوفمبر 1098م.
حاصر الصليبيون المدينة لمدة أسبوعين تقريبًا. حاول سكان المدينة الدفاع عن أنفسهم، ولكن تحصيناتهم لم تكن قوية كفاية.
في 12 كانون الأول / ديسمبر 1098، (10 محرم 492هـ) تمكن الصليبيون من اختراق الأسوار واقتحام المدينة.
ما حدث بعد الاقتحام كان مذبحة مروعة وصفها المؤرخون المعاصرون، بما في ذلك المؤرخ الصليبي "ريموند دي أجيلر" نفسه، بتفصيل صادم:
1. القتل العام: انطلق الجنود والصليبيون في شوارع المدينة يقتلون كل من يصادفهم من الرجال والنساء والأطفال. لم يتم التمييز بين المدنيين والمقاتلين.
2. مشاهد الوحشية: تصف الروايات مشاهد مروعة، منها:
* تقطيع الأجساد: تم تقطيع جثث الضحايا، حيث كان الصليبيون يشكون في أن بعض السكان قد ابتلعوا عملات ذهبية خوفًا من السرقة، فقاموا بشق بطون الموتى والأحياء للبحث عن الذهب.
* اللعب بالرؤوس: ذكر المؤرخون أن بعض الصليبيين كانوا يلعبون برؤوس الضحايا أو يرمونها على الجدران.
* الحرق أحياءً: تم إحراق العديد من السكان وهم أحياء داخل منازلهم أو مساجدهم.
3. الغنائم والنهب: نهب الصليبيون كل ما وقع في أيديهم من أموال وطعام وبضائع.
4. مصادر العذاب: ذكر المؤرخ "فولشر الشارتري" (Foucher de Chartres كان كاهنًا فرنسيًا شارك في الحملة الصليبية الأولى) أن الصليبيين "سلخوا المسلمين الفقراء... وقطعوهم وقطعوهم، كما لو كانوا قطعانًا من الماشية".
وبقول المؤرخ رودولف دي كاين (Ralph of Caen)، وهو جندي ومؤرخ شارك في الحملة الصليبية الأولى، في وصفه لمجزرة معرة النعمان: "في المعرة، أقدم جنودنا على غلي الوثنيين (أي المسلمين) احياء في القدور، وحوّلنا لحوم الأطفال إلى أسياخ لالتهامها مشوية".
5. مدة المذبحة: استمر القتل والنهب لعدة أيام بعد سقوط المدينة.
يقول ابن الأثير في (الكامل 9/16): "فوضع الفرنج فيهم السيف ثلاثة أيام، فقتلوا ما يزيد على مائة ألف، وسبوا السبي الكثير".
يقول المؤرخ الغربي غوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب (ص396)": "وعمل الصليبيون مثل ذلك في مدن المسلمين التي اجتاحوها، ففي المعرة قتلوا جميع من كان فيها من المسلمين اللاجئين في الجوامع والمختبئين في السراديب، فأهلكوا صبراً ما يزيد على مائة ألف إنسان في أكثر الروايات، وكانت المعرّة من أعظم مدن الشام بعدد السكان بعد أن فرّ إليها الناس بعد سقوط أنطاكية وغيرها بيد الصليبيين".
لكن المؤرخ الفرنسي جان كلود جويبو في كتابه "على خُطى الصليبيين" ينقل صورة مفصّلة لبعض ما حدث، فيقول: "تحت ضغط الحجاج ـ أي: الصليبيين الذين يقصدون بيت المقدس للحج ـ قرر رايموند دي سان محاصرة معرة النعمان"، ثم يمضي فيصف دخولها: "في جهنم معرّة النعمان المتروكة للرعب وللجوع والعطش... فجُثث المسلمين التي طرحت في الخنادق قطعت والتهمت بشراهة".
التبعات والتداعيات
صدمة العالم الإسلامي: مثلت مذبحة معرة النعمان، إلى جانب مذبحة القدس لاحقًا (1099)، صدمة عميقة في العالم الإسلامي، وكشفت عن الطبيعة الوحشية والعنصرية للحملة الصليبية الأولى.
تأكيد نمط العنف: أكدت المذبحة أن الصليبيين لم يأتوا فقط لـ "تحرير" الأماكن المقدسة، بل لاقتلاع السكان المحليين وإقامة كياناتهم الخاصة عبر الإبادة والترهيب.
ذكرى دائمة: بقيت ذكرى المذبحة حية في التراث الإسلامي كرمز للهمجية الصليبية، ولا تزال تذكر في المصادر التاريخية كأحد أكثر الأحداث دموية في تلك الفترة.
(المصدر: بوابة صيدا + على خُطى الصليبيين + حضارة العرب + الكامل في التاريخ)
ـــــــــــ
إقرأ أيضاً
مذبحة نيلي.. العصابات الهندوسية تقتل 5 آلاف مسلم
الإطاحة بـ الحبيب بورقيبة: عادى الإسلام وحارب أحكامه وشرائعه.. و طالب بالاعتراف بقرار تقسيم فلسطين
بوابة صيدا موقع إخباري متنوع ينطلق من مدينة صيدا ـ جنوب لبنان، ليغطي مساحة الوطن، والأمة العربية، والعالمين الإسلامي والغربي.. يقدم موقع (www.saidagate.com) خدمة إخبارية متنوعة تشمل الأخبار السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإسلامية، والمقالات المتنوعة.. تقوم سياسة الموقع على الحيادية، والرأي والرأي الآخر، يستقي الموقع أخباره، من تغطيته للأحداث، ومن وكالات الأنباء العربية والعالمية..