جنى جبّور ـ نداء الوطن
ليس كل احتضان تحرّشًا، وليست كل قبلة تحمل خفايا خبيثة بالاغتصاب. في خضمّ التزايد الضروري لحملات التوعية حول حماية الأطفال، تحوّل هذا الملف إلى قضية مُهوّلة تشكّل عبئًا نفسيًا متزايدًا على الأسر والأطفال معًا.
من المهم بمكان أن يتلقى الطفل تعليمًا واضحًا حول الخصوصية ومتى يقول "لا"؛ فالحدود الجسديّة خط أحمر. لكن هذا الوعي لا ينبغي أن يقود إلى عزل عاطفي، إذ يظلّ الطفل بحاجة ماسّة إلى التواصل الجسدي الدافئ لترسيخ الروابط والقيم العائلية. في المقابل، وعلى صعيد التطبيق العمليّ للحدود، تبرز ممارسة جدلية تنتشر بكثافة على المنصّات وهي تقبيل الطفل على فمه ونشر تلك الصور كنوع من التباهي بالعلاقة الوثيقة. فأين ينتهي الدفء العائلي وأين تبدأ الحدود التي يجب أن يحترمها حتى الأهل؟
يقع على عاتق الأهل إدراك الخيط الرفيع الفاصل بين الاحتضان الآمن والتحرّش، كخطوة أولى وحاسمة لترسيخ الوعي بالحدود الجسدية لدى الطفل منذ سنواته المبكرة. في هذا الإطار، تشدّد الاختصاصية في علم النفس العيادي الدكتور كارول سعادة على أنه "من الضروري إدراك الفرق الجوهري بين اللمس العاطفي الذي يحمل المودّة والدفء من دائرة الأمان المقرّبة (الأم، الأب، الأجداد، الأعمام، الأخوال) وبين أي نوع من اللمس المزعج أو الذي قد يحمل خفايا التحرّش. لذلك، يجب أن يكون الأهل هم الطرف الأكثر وعيًا بهذا الفارق الدقيق أولًا، ثمّ العمل على ترسيخ هذا المفهوم لدى الطفل. ويتمّ ذلك عبر تعليمه حقه المطلق في رفض أي لمسة تزعجه بقوله "لا"، حتى لو كانت صادرة عن أقرب الناس إليه".
لكن، في الوقت الذي يجب فيه تجنب المبالغة في التخويف، لا يعني هذا التراخي مطلقًا في تطبيق الحدود؛ فالتراخي الأبوي في هذا الشأن، والذي قد يؤدّي إلى غياب مفهوم حرمة الجسد واحترام حدوده الشخصية، يفتح الباب أمام تواصل جسديّ غير صحي يزعج الطفل. وتضيف: "من غير المقبول أيضًا أن يجبر الأهل أطفالهم على التواصل الجسدي بطريقة لا يرغبون فيها، حتى لو كانت مجرّد قبلة أو عناق؛ فالحماية الفعّالة تبدأ من غرس الاحترام الكامل للجسد".
الرفض ليس "قلة أدب"
لا يُعدّ التواصل العاطفي الجسدي مع الطفل مجرّد أمر طبيعي فحسب، بل ضرورة أساسية لتعزيز شعوره بالأمان والاستقرار. تقول د. سعادة "إن الطفل يكتسب الوعي بحدوده الجسدية وخصوصية أعضائه منذ عمر مبكر جدًا، بدءًا بالعامين أو حتى قبل، وعليه أن يستوعب أن لديه مناطق خاصة تتجاوز مجرّد المناطق الحساسة في جسده، لتشمل أي لمس يزعجه كالتقبيل على العنق أو الأذن، أو أي تلامس غير مرغوب فيه".
هنا، هناك بدائل فعّالة للعناق والقبلات العميقة تحقق المستوى ذاته من المودة، وتصون في الوقت نفسه خصوصية الجسد، مثل النظرة الحنونة، القبلة على الخد أو الجبين، أو وضع اليد على الكتف، ما يمنح الطفل العاطفة الضرورية دون اختراق حدوده. وتوصي بأن يتخذ الأهل دور القدوة، عبر احترام حدود أجسادهم أمام أطفالهم (مثل تجنب التعرّي)، والبدء بالحديث عن خصوصية الجسم، وبناء ثقة مطلقة لضمان مشاركتهم فورًا لأي موقف مزعج أو حادثة قد يتعرّضون لها، مردفةً: "والأهم، على الأهل التعامل مع الأقارب بلطف واحترام عند شرح هذه الحدود، مؤكّدين أن رفض الطفل للمس هو ممارسة حقه في الاستماع لجسده وما يزعجه، وليس دليلًا على "قلة تربية". فالهدف تعليم الطفل بدائل التواصل التي تضمن له الأمان وتشعره بالدفء، دون أن تنقص من العاطفة التي يحتاجها".
تقبيل الفم و "عقدة أوديب"
ننتقل إلى ظاهرة تقبيل الطفل على الفم، وهي ممارسة لا لزوم ولا مبرر تربويًا لها، وتثير الكثير من الجدل. فمن الناحية النفسية، هل يُعتبر تقبيل الوالدين للطفل على فمه أمرًا صحيحًا أو غير صحيح؟ تجيب د. سعادة مؤكدة أن هذه الممارسة غير مستحسنة على الإطلاق. فمن الناحية الإدراكية والنفسية، تسبّب ضياعًا للطفل في مفهوم الحدود، وتجعله يظن أن هذا التصرف طبيعي ويمكن ممارسته مع أي شخص خارج نطاق العائلة، وهو ما نراه فعلًا عندما يقلّد الأطفال هذا الفعل مع أقرانهم في المدرسة، أو يتقبلونه من الغرباء دون إظهار أي رفض. أما من الناحية الصحية والنظافة، فلا يُعدّ سلوكًا آمنًا، حيث يسهّل انتقال البكتيريا والجراثيم من فم الكبار إلى الطفل، ما يعرّضه لمخاطر صحية. وعلى الرغم من أن القبلة الواحدة لا تحدث بالضرورة أضرارًا جسيمة، إلّا أن استمرار هذه العادة إلى ما بعد مرحلة "عقدة أوديب" (أي بعد سن الرابعة أو الخامسة) يخلق عقدة نفسية يصعب حلها، ما قد يؤدي إلى مصاعب وتحديات حقيقية في مستقبل الطفل العاطفي وتواصله الصحي مع الآخرين".
بوابة صيدا موقع إخباري متنوع ينطلق من مدينة صيدا ـ جنوب لبنان، ليغطي مساحة الوطن، والأمة العربية، والعالمين الإسلامي والغربي.. يقدم موقع (www.saidagate.com) خدمة إخبارية متنوعة تشمل الأخبار السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإسلامية، والمقالات المتنوعة.. تقوم سياسة الموقع على الحيادية، والرأي والرأي الآخر، يستقي الموقع أخباره، من تغطيته للأحداث، ومن وكالات الأنباء العربية والعالمية..