مروة جردي ـ الأخبار
بملامح سمراء ونحيلة، وصوت واضح ولغة مباشرة وقاسية، حمل الصحافي الفلسطيني الشهيد أنس جمال الشريف (1996 ـــ 2025) مأساة غزة إلى العالم.
ابن مخيّم جباليا شاهد على مراحل الإبادة
ابن مخيم جباليا شمال القطاع، وخريج جامعة الأقصى عام 2014، التحق بـ «الجزيرة» كمراسل ميداني في نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2023، في الأسابيع الأولى من الحرب الإسرائيلية على غزة.
منذ ذلك اليوم وحتى لحظة استهدافه أول من أمس، كان شاهداً على كل مراحل الإبادة وتجويع السكان، وترك حساباته على المنصات الرقمية كأجندة حيّة ليوميات القطاع المحاصر.
يمكن الرجوع إليها كوثيقة وإدانة للإنسانية التي فقدت ملامحها عندما صمت العالم عن هذه الإبادة. بعد استهداف منزله في مخيم جباليا واستشهاد والده العام الماضي، عاش أنس بلا مأوى وبعيداً من عائلته، متنقلاً بين أماكن العمل والملاجئ، ولم يعرف طعم النوم الطويل الآمن.
كان يوصي دوماً: «أوقفوا الجنون المستمر في غزة منذ 22 شهراً، وإلا سيسجّلكم التاريخ كشهود صامتين على جريمة الإبادة». خلال تلك الفترة، ظهر الشريف على الشاشات ووسائل التواصل بشكل شبه يومي، حتى دفعت تغطيته الميدانية مقرّرة الأمم المتحدة لحرية التعبير آيرين خان إلى التحذير من استهدافه.
وصية من قلب فلسطين... التغطية المستمرة
رفع أنس شعار «التغطية مستمرة»، وبقي بين الناس ورفاقه يوثق معاناتهم، وينعى شهداء المهنة ويستعيد ذكراهم، وينقل بالصوت والصورة، وبالعربية والإنكليزية، حكايات القطاع وأبطاله، من بينها حكاية مدير «مشفى كمال عدوان» الطبيب المعتقل حسام أبو صفية.
كان المحتوى الصحافي والإنساني الذي يقدمه أنس أشبه بقناة إخبارية متكاملة، يعمل بلا كلل، حتى قال أحد زملائه إنه اضطر إلى طلب راحة له لساعات قليلة كي ينام. لكن أنس لم يتوقف، وكان ظهوره الأخير في نشرة الظهيرة قبل ساعات من استهدافه مساء الأحد.
في السادس من نيسان (أبريل) الماضي، كتب أنس وصيته. بلغة صادقة ومترسّخة كأنها الحقيقة الكاملة، حملت الوصية قصة فلسطين: المخيمات، الأرض، والجذور. ذكّر بأنه من عسقلان المحتلة (المجدل)، وأنه فتح عينيه على الحياة في أزقة المخيمات. أدان الصمت قائلاً: «عسى أن يكون الله شاهداً على من سكتوا ومن قبلوا بقتلنا، ومن حاصروا أنفاسنا…».
حساباته على المنصات الرقمية أجندة حيّة ليوميات القطاع المحاصر
أوصى بفلسطين وأطفالها «الذين سُحقت أجسادهم الطاهرة بآلاف الأطنان من القنابل والصواريخ الإسرائيلية…».
خصّص جزءاً من وصيته لأمه وزوجته الصابرتين، ولابنته شام التي حلم أن يراها تكبر، ولابنه صلاح الذي أراد أن يكون له سنداً.
ربما لهذا السبب احتل الأطفال مساحةً واسعة في تغطيته؛ تابع أوضاعهم في المستشفيات، روى حكايات الشهداء منهم، وحرص على تصوير لحظات مع طفلته كلما استطاع، خصوصاً بعدما أجبرته الحرب على الغياب القسري عن عائلته لمدة 15 شهراً.
ندٌّ بكلمته... ورسالته لم تنقطع
«لا تمت قبل أن تكون نداً»، قالها غسان كنفاني، وترجمها أنس الشريف واقعاً. رفض الخروج من غزة رغم التهديدات المباشرة، وقال لصديق: «لن أخرج من غزة إلا إلى الجنة».
كان هدفاً لحملات تحريض إسرائيلية بعد توثيقه مجاعة غزة، وكشفه لفصول جديدة من جرائم العدو وعنجهيته، حيث كان أول من تحدث عن «مجزرة الطحين» التي استهدفت فيها قوات العدو مدنيين ينتظرون المساعدات ووثقها ونقلها إلى العالم.
لم يكن عمله روتينياً، بل بحث دوماً عن قصة جديدة تصفع الضمير العالمي: من النزوح، إلى حصار المستشفيات، إلى معاناة النساء والأطفال، وحماية وجوه الشهداء من التحول إلى مجرد أرقام.
حتى بعد استشهاده، واصل فريقه نشر محتوى صفحته، في خطة أعدّها مسبقاً مع رفاقه، كما فعل مع وصية زميله الشهيد حسام شبات.
يرى ناشطون وصحافيون أنّ استهداف أنس جاء بعد تحذيره من أن الاحتلال يلوّح باجتياح غزة مجدداً، قائلاً: «إن لم يتوقف هذا الجنون، فلن يبقى من غزة سوى الركام».
اغتياله بطائرة مسيرة كان اعترافاً من العدو بأنه «ندّ»، وأنه رغم عزلته عن السلاح، شكّل خطراً حقيقياً على رواية الاحتلال. قد يظن القاتل أنه أطفأ الصوت باغتيال الجسد، ولكن أنس الشريف، بصورته وكلمته ووصيته، بقي في ذاكرة الناس شاهداً وندّاً… حتى النهاية.
بوابة صيدا موقع إخباري متنوع ينطلق من مدينة صيدا ـ جنوب لبنان، ليغطي مساحة الوطن، والأمة العربية، والعالمين الإسلامي والغربي.. يقدم موقع (www.saidagate.com) خدمة إخبارية متنوعة تشمل الأخبار السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإسلامية، والمقالات المتنوعة.. تقوم سياسة الموقع على الحيادية، والرأي والرأي الآخر، يستقي الموقع أخباره، من تغطيته للأحداث، ومن وكالات الأنباء العربية والعالمية..