• لبنان
  • السبت, تموز 12, 2025
  • اخر تحديث الساعة : 11:48:23 ص
inner-page-banner
مقالات

عمر حرفوش ـ نداء الوطن

ليست كثيرة هي المدن التي تقف عند تقاطع التاريخ والجغرافيا، وتحافظ رغم كل ما تمرّ به على حضورها الحيّ في ذاكرة الشعوب. طرابلس واحدة من هذه المدن القليلة. مهما تنوّعت الصعاب، من التهميش والإهمال والتخلي، إلى العواصف السياسية والأمنية والاقتصادية، بقيت هذه المدينة تحتفظ بروحها. لا لأنها محظوظة، بل لأنها عميقة الجذور، عريقة في تركيبتها، وذات هوية عصية على الاختزال.

طرابلس ليست مجرّد مدينة ساحلية لبنانية. إنها امتداد لمدن وحضارات. منذ أن أنشأها الفينيقيون كمركز اتحادي لممالك صور وصيدا وأرواد، مرّت عليها قوافل اليونان والرومان والمماليك والعثمانيين. اسمها وحده Tripolis، أي المدن الثلاث يعكس طبيعتها التاريخية كملتقى حضاري وتجاري وفكري. مدينة كانت نواة، لا هامشًا. فاعلة، لا منفعلة. تُنتج محيطها، لا تستهلكه.

وربما لهذا السبب تحديدًا، تعود طرابلس اليوم إلى واجهة النقاشات السياسية، لا كمحور نهوض أو مشروع إصلاح، بل كعنصر في تسوية إقليمية قيد الإعداد. طرابلس تُطرَح اليوم في سياق غير رسمي ومُلتبس كجزء من "مقايضة" غير معلنة مضمونها أن الجولان لإسرائيل، وطرابلس للنظام السوري الجديد كـ "هدية" للجولاني. وما بينهما، تفاهمات صامتة تحت مظلة إقليمية-دولية، يجري التمهيد لها إعلاميًا وسياسيًا ببطء، على شكل "بالونات اختبار" تقيس ردود الفعل وتختبر الأرضية النفسية لأي مشروع تقسيمي قادم.

الطرح قد يبدو عبثيًا، لكنه ليس وهماً. في عالم السياسة، لا يُقال شيء عبثًا. وفي منطقة تتغير خرائطها أكثر مما تتغير حكوماتها، ليس مستغربًا أن يُروَّج لفكرة تقسيم ناعم أو إعادة توزيع نفوذ، يتعامل مع المدن كمفاتيح عبور، أو أثمان ضمن تفاهمات أكبر.

لكن من يُروّج لطرابلس كـ "هدية محتملة" للنظام السوري، يتجاهل أن هذه المدينة لم تكن يومًا سهلة، ولا مرّت مرور الكرام على أي احتلال أو وصاية. كل من دخلها حاول أن يطوّعها، لكن المدينة دائمًا استعادت نفسها. من الحروب الصليبية إلى الانتداب الفرنسي، من الاحتلال السوري إلى الانفلات الأمني، بقيت طرابلس مدينة قادرة على إعادة تركيب نفسها، حتى حين تُهمّش أو تُخنق.

وما يزيد القلق، أن ردود الفعل على هذا الطرح، كانت أقل بكثير مما تقتضيه رمزية المدينة. لا موقف سياسي واضح، لا مؤتمر طارئ، لا تحرك أهلي أو مدني بحجم التهديد. اكتفى كثيرون من ممثلي المدينة ووجهائها بنشر مواقف مقتضبة على منصات التواصل، وكأن مصير طرابلس يمكن احتواؤه بتغريدة أو منشور.

السكوت في هذه الحالة ليس حيادًا، بل تفريط. والتعامل مع مدينة كطرابلس وكأنها عبء أو ورقة تفاوض هو اختزال مخلّ، لا يمكن أن يمرّ مرور الكرام. فطرابلس ليست قابلة للتنازل، لا بموقعها، ولا بتاريخها، ولا بهويتها. هي أكبر من أن تكون بندًا في صفقة، أو تفصيلًا في تسوية لا تراعي شعوبها.

وفي وقت تُطرَح فيه مدنٌ أخرى في لبنان، كالبقاع والجنوب، في خريطة النفوذ والاصطفافات المقبلة، تبدو طرابلس وكأنها بوابة الاختبار الأولى، التي إن صمتت، يُستكمل السيناريو. وإن تحركت، تغيّرت المعادلة.

لكن التحدي الحقيقي لا يبدأ في قاعات السياسة، بل في وعي الناس. في شعور أبناء المدينة بقيمتها، وإدراك محيطها لأهميتها. لأن الاحترام لا يُمنح للمكان من الخارج، بل يُصنع من الداخل، حين تعرف مدينة مثل طرابلس كيف تقول "أنا لست للبيع".

بوابة صيدا

الكاتب

بوابة صيدا موقع إخباري متنوع ينطلق من مدينة صيدا ـ جنوب لبنان، ليغطي مساحة الوطن، والأمة العربية، والعالمين الإسلامي والغربي.. يقدم موقع (www.saidagate.com) خدمة إخبارية متنوعة تشمل الأخبار السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإسلامية، والمقالات المتنوعة.. تقوم سياسة الموقع على الحيادية، والرأي والرأي الآخر، يستقي الموقع أخباره، من تغطيته للأحداث، ومن وكالات الأنباء العربية والعالمية..

مدونات ذات صلة