د. محمد العوضي ـ بوابة صيدا
كيف نُفسّر سعادة الملايين من سكان هذا الكوكب المنكوب بالظالمين، وهم يشاهدون انهمار الصواريخ على الكيان الصهيوني؟!
ولماذا تتمنّى عامة البشرية المزيد من الرشقات التدميرية لهذا الكيان الآثم؟!
الجواب ببساطة ودون تنطع فلسفي: أن الفطرة الإنسانية بطبيعتها السوية تكره الطغيان وتنفر من الطغاة، وتتلذذ؛ نعم تتلذذ؛ برؤية جبابرة الأرض وهم يُقصَفون.
نعم، كلنا ننتشي عندما نرى الضربات تتوالى على ذلك الكيان الباغي، الذي لم يترك جريمة إلا وفعلها، بل زاد:
• عنصرية الاستعمار،
• ووحشية النازية،
• وهمجية الفاشية،
ثم تراه يتباهى بإباداته، ويتبختر في المحافل الدولية، يُلوّح أنه فوق القانون، بل وفوق الإنسانية جمعاء.
فحين تُقصف حصونه، ويختبئ جنرالاته في الملاجئ، ويرتجف شعبه المدجج بالسلاح في أقبية الأرض، فذلك يمثل لحظة استعادة لفطرة الإنسان المكلومة، لحظة يستنشق فيها التاريخ نَفَسًا من عدالةٍ مُنتَهكة.
وقد كتب الإمام الفخر الرازي قبل تسعة قرون كتابه "أقسام اللذات" فعدّ منها:
- لذة جسمانية: وهي لذة الغرائز.. والتي يشترك فيها مع البهائم.
- ولذة وهمية: وهي لذة المناصب والنفوذ.
- ولذة روحية: هي لذة الانتماء إلى القيم العليا.
فلو كان الرازي بيننا اليوم لربما ردد معنا:
يا لذة العيون حين يُقصف الظالمون..
ويا قرة العيون حين يُزلزل طغيان صهيون!
في هذا السياق نتساءل: هل يوجد في العالم كله -غير الأميركيين وبعض حلفائهم- من حَزن على ما أصاب الكيان من حرائق وتدمير؟!
الجواب: نعم!
هناك قادة عنصريون في أحزاب مارقة في الهند وأوروبا، وأشباههم من مصّاصي الدماء ممن أسعدتهم محرقة غزة وآلمهم احتراق أحبّائهم من قتلة الأطفال!
لكنَّ الأخطر من هؤلاء هم: منافقو هذه الأمة من المتصهينين العرب، الذين سقطت أقنعتهم بعد 7 أكتوبر، ثم تجردوا تمامًا من كل مواربة، ووقفوا عراةً من كل خجل، يندبون احتراق "أحبابهم" من المحتلين، وربما تواروا بحزنهم خلف التنديد بمَن قصفهم!
هؤلاء ليسوا خصومًا للحق، بل هم أخسّ من العدو نفسه، لأن العدو لا يدّعي القرابة، أو يتظاهر بتعاطف بارد مضلل، أما هؤلاء فمن جلدتنا، ولكنهم يتلذذون بطعن الأمة في الخاصرة… ثم يهتفون: "اللهم انصر الإسلام"!
ولذا، فكل من فيه ذرة من ضمير، فإنه يفرح ويتهلل بما يصيب هذا الكيان من ويلات، سواء أتت الصواريخ من إيران، أو من كوريا الشمالية، أو من غزة المحاصرة، أو من أي منصة كانت.
لكن، هنا يبرز سؤالٌ آخر لا يقل أهمية: لماذا لم تحظَ إيران في هذه المواجهة مع الكيان الصهيوني بتأييدٍ شعبيٍّ عربيٍّ واسع؟!
لماذا أصبح شعار "اللهم اضرب الظالمين بالظالمين" هو الأكثر شيوعًا؟!
لماذا نشهد هذا الانقسام العربي الوجداني تجاه مشهد كان يُفترض أن يوحّدنا؟!
الإجابة باختصار: لأن الجراح المفتوحة في الجسد العربي كثيرة.. وكان أغلبها بسكين إيراني غادر!
- في العراق: ميليشيات مدعومة من إيران هجّرت، وأحرقت المدن، وكرّست الطائفية حتى النخاع.
- في سوريا: وقفت إيران بكل وضوح مع النظام المجرم، وساهمت في حصار وتجويع وتهجير السوريين وشاركت بجرائم قتل المدنيين والعُزّل دون تفرقة بين رجل وامرأة وشيخ وطفل باسم "المقاومة"!
- في اليمن: دعمت انقلابًا دمويًا مزّق النسيج اليمني، وأشعل صراعًا لا نهاية له.
- في لبنان دعمها لإجرام "حزبها" الذي اختطف لبنان أمنيا واقتصاديا وعسكريا وكان مخلب القط سيىء الصيت الذي استخدمته إيران لبث الطائفية والاصطفاف الفئوي والتخندق المذهبي وتصفية المخالف مما أعاد لبنان سنوات إلى الوراء وارتكاب أفظع الجرائم الطائفية في سوريا.
ثم؛ كيف يمكننا أن نفهم تبني إيران القضية الفلسطينية ودعم المقاومة بالمقارنة مع ما حصل من تنكيل وتشريد لفلسطينيي المهجر على يد ميليشياتها وأنظمة دول مدعومة منها كما في مخيم اليرموك بسوريا بعد الثورة وفلسطينيي العراق بعد سقوط صدام؟!
ويضاف لها اليوم سقوط غزة تماما من حساباتها وإهمال ذكرها -وهي في ذروة الإبادة الصهيونية- من شروط وقف الحرب بينها وبين الكيان المحتل؟!
لقد رأى العرب – لا من خلال الإعلام، بل رأي العين في الواقع – أن إيران ترفع شعار فلسطين، لكنها تبني مشروعها على أنقاض العواصم العربية، لا على أبواب القدس!
وهكذا، تفكّك المعنى الأخلاقي لدعمها "للمقاومة"، حين رآه الناس ملطخًا بدمائهم، ومشروطًا بخضوعهم.
وهنا لن نقع في فخ تبرئة العرب وإلقاء اللوم على إيران وحدها، فالخذلان العربي الرسمي –لا الشعبي– هو من هيّأ الأرض لكل تمددٍ خارجي، فحين غابت الأنظمة العربية عن ملف فلسطين، وحين تم اختزال الفعل العربي في بيانات موسمية، وحين أُخليت الساحة من أي مشروع عربي موحد وتسابقوا للتطبيع… كان من الطبيعي أن يملأ الفراغ آخرون من أصحاب المشاريع والأجندات والمصالح.
إيران –مثل غيرها– دخلت من بوابة الغياب العربي، ووجدت في شتاتنا فرصة، وفي الشعارات الجوفاء غطاءً، وفي الاكتفاء بالبيانات الرسمية فرصة لا تُعوَض، بل إن الشعوب العربية نفسها، في مرحلة ما، تعلقت بالأمل الإيراني، وظنت أن فيه بديلاً، حتى إذا انكشفت الأجندات وسقطت الأقنعة، بدأت المراجعات.
أخيرا.. إن فرحتنا بقصف “صهيون” هو استراحةَ روحٍ أنهكها الظلم، ولقطة نادرة للعدالة حين ترفع رأسها ولو مؤقتًا.
لكن بين أيدينا الآن سؤال أكبر: هل نريد مقاومة نظيفة، لا توظّف الظلم لمكافحة الظالمين؟!
هل نريد مشروعًا عربيا صادقا ومستقلا لا ينفصل عن بقية العالم الإسلامي؟.. مشروعًا يُسقط الحجة من يد كل دخيل، ويغلق الباب في وجه كل متسلل بشعار المقاومة؟
الجواب… ليس في "ضعف" العرب، ولا في "خبث" إيران، ولا في "أحلام" واشنطن وتل أبيب! بل في الضمير الحي لهذه الأمة، إن نفض عن كاهله غبار التبعية، وانعتق من قبضة الوكلاء الذين باعوه باسم التنمية والاستقرار أو باسم ثورة طائفية عنصرية خادعة!