بديعة النعيمي ـ بوابة صيدا
*يا دكتور..أرجوك..ما تعالجني..خليني أموت*
عبارة همس بها طفل نجى من قصف عنيف شنته طائرات الاحتلال على مطعم التايلندي في أذن الطبيب محمد قنديل في مستشفى الشفاء حين اقترب منه وأمسك يده وهم بإنقاذه...
محمد قنديل الذي اندفع نحو ذلك الطفل وفي عينيه استعجال الحياة، صدمه استعجال الموت في عبارة *ما تعالجني..خليني أموت* التي انطلقت من الطفل المصاب الذي شاخت ملامحه.
فما الذي جعل هذا الطفل يتوسل الموت؟ وأي رعب سقط على جسده الصغير حتى ضاقت نفسه ذرعا بهذه الحياة لدرجة الرجاء للتخلص منها، فكان الموت هو الخيار الأفضل والأكثر رحابة وراحة في عينيه المرهقتين؟
ما الذي دفع بهذا الصغير أن يطلب الرحيل، إلا أنه رأى ما رأى من أهوال، ولم يعد قلبه الهش قادرا على إتقان فن الحياة التي تعج بكل شيء إلا معاني الحياة؟
*يا دكتور..ما تعالجني*، قالها كمن ينطق وصيته الأخيرة، قالها بعينيه التي أنهكهما الركام والجوع والنزوح وصوت القصف وأشياء أخرى مرعبة لا يعرفها إلا من يسكن غزة..
*يا دكتور..ما تعالجني*، شهادة سخط على عالم فقد ملامح المروءة والرحمة. فأي حياة تلك التي تجعل براءة هذا الطفل تخجل من نفسها، وتطلب الرحيل بصمت؟ وأي عار هذا الذي يجعل الموت أرحم عنده من الحياة؟
هذا المشهد ليس الأول ولا هو نادر الحدوث، إنه واقع يُعاش بصمت كل لحظة، ولكن..بعيدا عن العالم، في بقعة اسمها غزة. حيث لا زال كل شيء فيها مشروع صالح للقصف، فما تبقى من الأحياء، يُقصف بأحزمة نارية، والخيم الواهنة القماشية والبلاستيكية أيضا لا زالت تُقصف بالقنابل الثقيلة، وكأنها أبنية مسلحة عصية على القصف. غزة..حيث يصبح الخبز جريمة في طوابير المساعدات المُذلّة، والماء الذي لا تحصل عليه إلا بشق النفس ترفا، ولعب الأطفال بشظايا القنابل تهمة تستحق القصف المميت.
*أرجوك ما تعالجني..يا دكتور*، صرخة نزع بها ذلك الطفل دون أن يدرك، ما تبقى من قناع الإنسانية المهتريء عن وجه ملياري مسلم وعن وجه العالم أجمع.
فما الذي فعلناه للطفولة حتى صارت تتمنى الموت والزوال؟
هذا الطفل لم يكن يريد الدواء والعلاج بل تمنى إجابة صعبة المنال في هذا الزمن، إجابة حتى الطبيب لم يستطع تقديمها له، فما كان منه إلا أن توقف ولم يتحرك، فقد تجمد قلبه في صدره. ربما لأنه فهم بأن دوره في علاج جروح الجسد لم يعد كافيا، لأن الجروح العميقة في الروح والتي يصعب الوصول إليها بالأدوات الطبية التقليدية هي المميتة.
*ما تعالجني.. يا دكتور* اختصرت قرنا كاملا من الخيانة. اختصرت جحافل من الجيوش الصامتة والجاهزة فقط للاستعراض. اختصرت اعتيادنا المقزز لمشاهد الموت والأشلاء المتناثرة هنا وهناك، دون أن نتحرك، دون أن نقول لأنظمتنا كفى خيانة، كفى تواطؤ..
ربما سيستجيب هذا الطفل للطبيب وتشفى جروح الجسد، لكنه سيبقى قيد وجع جروح الروح. وعبارته ستظل تطرق أبواب ضمائرنا النائمة، علها تستفيق يوما على الحقيقة، حقيقة تفريطنا بغزة وقبلها بفلسطين.
ملاحظة...
جاء هذا المقال بعد أن حزّ قلبي سكين الألم حين وقعت عيناي على منشور للدكتور منير البرش والذي نشره على حسابه في منصة "إكس"، وقد عنونه ب *أوجاع غزة..صرخات لا يسمعها العالم* ..
فكم ستحزّ أوجاع غزة قلوبنا قبل أن نتحرك؟؟ وكم من طفل سيرفض العلاج طالبا للموت قبل أن نقول كفى؟؟؟
بوابة صيدا موقع إخباري متنوع ينطلق من مدينة صيدا ـ جنوب لبنان، ليغطي مساحة الوطن، والأمة العربية، والعالمين الإسلامي والغربي.. يقدم موقع (www.saidagate.com) خدمة إخبارية متنوعة تشمل الأخبار السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإسلامية، والمقالات المتنوعة.. تقوم سياسة الموقع على الحيادية، والرأي والرأي الآخر، يستقي الموقع أخباره، من تغطيته للأحداث، ومن وكالات الأنباء العربية والعالمية..