بديعة النعيمي ـ بوابة صيدا
شدني خبر تم نشره قبل يوم من كتابة هذا المقال مفاده "استهداف 3 مزارعين بالقرب من بئر أبو حافظ جنوب الشاكوش غرب رفح".
وهو ليس الخبر الأول الذي يواجهني، فقد تكررت الأخبار عن استهداف مزارعين وصيادين في غزة من قبل عصابات جيش الاحتلال. ومن خلال بحثي عن أخبار مشابهة وجدت خبر استهداف في العام الماضي لمزارعين وهم يجمعون البطاطا في شمال غزة. كما أنه وفي شهر يناير 2024 تم استهداف مركبة صيادين على شاطئ بحر دير البلح وسط القطاع، وغيرها الكثير من الحوادث المشابهة التي رصدت مثل هذه الاستهدافات..
قادني هذا إلى زمن أبعد، حيث يتعرض سكان قطاع غزة منذ سنوات طويلة لانتهاكات ممنهجة تستهدف أبسط مقومات الحياة، وعلى رأسها الزراعة والصيد، وهما من أعمدة الاقتصاد القليلة المتبقية في القطاع المحاصر. حيث تتكرر التقارير المحلية والدولية حول استهداف مباشر للمزارعين في المناطق الحدودية والصيادين في عرض البحر، ما يدفع إلى التساؤل حول غايات هذه السياسة وتداعياتها.
فهذا النمط من الوقائع آنفة الذكر ليس بالأمر الجديد، بل هو حلقة في سلسلة طويلة من الاعتداءات التي باتت تُدرج ضمن سياسات دولة الاحتلال الرامية إلى إضعاف الاقتصاد المحلي في غزة، وكسر صمود السكان عبر أدوات التجويع والترويع.
ونحن نعلم أنه منذ فرض الحصار على غزة عام 2007 عقب فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية في يناير 2006 ثم سيطرة الحركة عسكريا على القطاع في يونيو 2007 ، فرضت دولة الاحتلال ما يعرف بـ"المنطقة العازلة"، وهي منطقة تقع على طول الحدود الشرقية داخل القطاع ويحظر على الفلسطينيين الحركة فيها، رغم أن هذه المنطقة تحتوي على أراض زراعية خصبة. حيث يتعرض المزارعين الذين يحاولون العمل في هذه المناطق بشكل دائم لإطلاق النار، أو رش المبيدات السامة، أو مصادرة معداتهم، الأمر الذي جعل الزراعة مهنة محفوفة بالمخاطر والموت.
وبحسب تقارير "هيومن رايتس ووتش والأمم المتحدة"، فإن هذه الممارسات تندرج تحت سياسات العقاب الجماعي، وتنتهك ما يسمى ب "القانون الدولي الإنساني". لكن كما قلت سابقا وأكررها اليوم بصوت عال أن هذه القوانين لا تنطبق على الشعب الفلسطيني منذ عام 48.
أما في البحر، فالحال لا يختلف كثيرا. فلا يُسمح للصيادين الفلسطينيين بالإبحار إلا لمسافات محدودة غالبا ما تقل عن 6 أميال بحرية، بالرغم أن اتفاقية "أوسلو" تقضي بالسماح للفلسطينيين بالإبحار حتى 20 ميلا أي ما يقابل 37 كم مقابل شواطئ غزة.
ورغم ضيق المسافة، يتعرض الصيادون للملاحقة، وإطلاق النار، واحتجاز القوارب والمعدات. وتُوثّق منظمات مثل بتسيلم عشرات الحوادث سنويا، تؤكد الطابع المنهجي لهذا الاستهداف.
وبحسب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان فقد شهد عام 2022، حوالى 30 حادث إطلاق نار شهريا على قوارب الصيادين.
تاريخيا، لم تكن هذه السياسات بمعزل عن السياق الاستعماري الذي تمارسه دولة الاحتلال تجاه الأراضي الفلسطينية. فمنذ احتلال 1967 وظفت دولة الاحتلال أدوات متعددة للسيطرة على الموارد الطبيعية الفلسطينية، سواء من خلال مصادرة الأراضي، أو تقنين المياه، أو تقييد حرية الحركة. ويشكل الاستهداف الحالي امتدادا لهذه السياسات، لكنه أكثر فتكا كونه يطول الفئات الأضعف التي تسعى فقط للبقاء وسط الحصار والتجويع والقصف والدمار وحركات النزوح المتواصلة وسط افتقاد المناطق الآمنة التي يدعي جيش الاحتلال وجودها.
وما الهدف من وراء مثل هذه الممارسات الوحشية إلا من أجل دفع أهلنا نحو الهجرة القسرية أو تحييد السلاح والاستسلام للأمر الواقع، وهي استراتيجية غير معلنة ولكنها تتضح من خلال تلك الممارسات. فتجريد الإنسان من قدرته على تأمين قوته وقوت أسرته، تحت تهديد السلاح، لا يمكن قراءته إلا ضمن مخطط شامل يهدف إلى إعادة تشكيل ديموغرافية القطاع، وإفراغه من عناصر المقاومة الاقتصادية والاجتماعية. وسط تواطئ دولي وصهيوعربي. وهو ما يشجع استمرار الانتهاكات، بل ويمنحها غطاء على تجبرها واستقواءها على أهلنا في غزة.
وما استهداف المزارعين والصيادين في غزة إلا تعبير صارخ عن استخدام الغذاء والاقتصاد كسلاح في حرب دموية لا نعرف متى تنتهي. إنه تجويع سياسي، وتضييق عقابي يطال كل فلسطيني يسعى للبقاء فوق أرضه، ويقاوم من أجلها.
بوابة صيدا موقع إخباري متنوع ينطلق من مدينة صيدا ـ جنوب لبنان، ليغطي مساحة الوطن، والأمة العربية، والعالمين الإسلامي والغربي.. يقدم موقع (www.saidagate.com) خدمة إخبارية متنوعة تشمل الأخبار السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإسلامية، والمقالات المتنوعة.. تقوم سياسة الموقع على الحيادية، والرأي والرأي الآخر، يستقي الموقع أخباره، من تغطيته للأحداث، ومن وكالات الأنباء العربية والعالمية..