الشيخ ماهر حمود ـ الأخبار
بعد رسالتنا الأولى إلى البطريرك بشارة الراعي على صفحات هذه الجريدة (02/ 03/ 2021) حول دعوته إلى الحياد، هذه رسالتنا الثانية، نرسلها مفتوحة إلى غبطة البطريرك، مع ترجيحنا بأن الفائدة منها ستكون محدودة إن لم تكن معدومة، لأن الضجيج الذي يملأ مجتمعنا هو ضجيج مموّل، ترعاه جهات دولية متخصصة، يمنع صوت العقل والحكمة، مع أن من المفترض أن يكون من هو في موقع القيادة الرعوية بمنأى عن الضجيج واللغو، ولكن الواقع يقول شيئاً آخر مع الأسف الشديد:
أولاً، نعود إلى جملة وردت على لسان البطريرك لم نعلّق عليها وقتها لأن الجميع علّق عليها وأسهب في ذلك، وهي دعوة غبطته إلى «تحرير» المدارس الخاصة والرسمية من النازحين، وكان يمكن تجاوز هذه الخطيئة المستهجنة، ببساطة، لو كان كلام غبطته ارتجالياً، ولكنه كان مكتوباً ومطبوعاً، ويفترض أنه قد تمت مراجعته أكثر من مرة.
ثانياً، إن ما ورد في كلام غبطته يوم الأحد الفائت، 24 تشرين الثاني، يدفعنا إلى رفع الصوت مؤكّدين أن الصمت إزاء ما قيل يندرج تحت القول المأثور: الساكت عن الحق شيطان أخرس. فالتشكيك في الحجم التمثيلي للرئيس نجيب ميقاتي باعتبار أنه رئيس حكومة تصريف أعمال، له ما يبرره جزئياً، مع عدم موافقتنا على ذلك، أما التشكيك بما يمثله الرئيس نبيه بري، فليس له ما يبرره في القانون ولا الواقع السياسي، وإن كنا نرفض الأمرين معاً. أما التشكيك بنوايا الرئيسَيْن ولمصلحة من يعملان، فخطيئة لا يمكن أن تغتفر، وخصوصاً أن الجميع يشهد بأن ما يقدمه الرئيسان في هذه الظروف الضاغطة والاستثنائية يضعهما في موقع الاستشهاديَّين، لأنهما يتحملان الضغوط الصهيونية والأميركية والعالمية كما لم يتحمله أحد، ويقومان بالنيابة عن اللبنانيين جميعاً بما يعجز عنه أي زعيم أو مسؤول آخر.
ثالثاً، إن الاتهام الضمني بأن ثمة من يعطّل عمداً انتخاب رئيس جمهورية، يندرج تحت عنوان الظن السيئ الذي لا يغني من الحق شيئاً، وكما ورد في الإنجيل المقدس: «ومن ظن أنه شيء وهو في الحقيقة لا شيء خدع نفسه» [غلاطية 6:3]، وهو أمر تدحضه الوقائع السياسية التي تؤكد أن المشكلة عند الزعماء الموارنة الذين يفضلون المصالح الشخصية على المصالح العامة، ولم يكن ثمة مانع من انتخاب سليمان فرنجية (مثلاً) رئيساً إلا الشخصانية المفرطة عند بعضهم، والإملاء الخارجي عند البعض الآخر، وهذا ينطبق على الاتفاق على مرشح آخر.
رابعاً، إن حزب الله قام بالنيابة عن اللبنانيين جميعاً بالدفاع عن الأرض وتحريرها عام 2000، والدفاع عنها عام 2006، وهو يمارس الآن أعلى درجات البطولة في الدفاع عن الأرض اللبنانية، كما لم يحصل في التاريخ، ولا يخفف من حجم هذه البطولة أن يقول البعض إنه المسؤول عن حرب لا شأن لنا بها، والأجدى أن نصدّق التقارير الغربية الكثيرة التي تجزم بأن الحرب على حزب الله كانت ستنشب، سواء كانت حرب الإسناد أو لم تكن.
خامساً، الحديث عن أن حزب الله دولة ضمن دولة كلام عاطفي شعبوي لا يستند إلى الحقائق، والأجدى أن نتابع أكثر الفئات اللبنانية التي نهبت الدولة وتعاملت مع المال العام كأنه مكسب شخصي أو مشاع للجميع، فيما حزب الله قدم لمشروع الدولة المحتمل التي يتحدث الجميع عنها أهم أركانها، وهو الأرض المحررة وقوة الدفاع والتوازن الاستراتيجي في بعد من الأبعاد، وقد يكون هذا الموضوع بحاجة إلى بحث في مكان آخر.
سادساً، فوجئ حزب الله بهذا التفوق النوعي المعتمد على الذكاء الاصطناعي، الذي هو طفرة علمية ما كان لأحد في العالم الثالث أن يصل إليها. لكنه أعاد تأسيس نفسه بعد الضربات الموجعة، والتقط أنفاسه، وهو الآن يهدد تل أبيب بقصف متواصل، مما دفع ملايين الصهاينة إلى الملاجئ. ألا يثلج صدرك غبطة البطريرك مثل هذا الأمر، ويدعوك إلى تقدير هؤلاء اللبنانيين الذين قدموا للبنان على طريق هذا الصراع التاريخي ما لم يقدمه أحد؟ ألا يدعونا ذلك إلى تأجيل الحديث عن لبنان ما بعد حزب الله، والبحث عن الورثة وتقاسم التركة؟
سابعاً، إننا نؤكد أن الصهاينة أعداء البشرية، وأننا جميعاً، مسلمين ومسيحيين وبوذيين وهندوساً وملاحدة، حيوانات خلقنا لخدمة الشعب المختار، بل ونؤكد أيضاً أن المسيحية بتراثها المعتمد على المحبة والتسامح، كما قال تعالى في القرآن الكريم: «ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتّبعوه رأفة ورحمة...» [سورة الحديد: ٢٧]، أوضح وأسبق في العداوة مع الصهاينة، منذ الأيام الأولى لسيدنا المسيح عليه السلام، ونعيد إلى الأذهان العهدة العمرية التي أعطت للمسيحيين في القدس الحق في إقامة الصلوات ورفع الصلبان، وميّزت بيوتهم بإشارات معينة حتى لا يتم إيذاؤهم أو الطلب منهم مثل ما يطلب من المسلمين، في المأكل والمشرب والصلوات وغير ذلك، بينما نصّت الوثيقة على منع اليهود من دخول القدس خوفاً من مؤامراتهم على القدس، وكان بالتأكيد هذا المنع استجابة لطلب البطريرك صفرونيوس الذي مثّل في تلك اللحظة الموقف التاريخي للمسيحية التي تعلم أكثر من الآخرين حجم الكيد اليهودي (الصهيوني) لكل دعوة خير ولكل قيمة إنسانية، فلمصلحة من تُشوّه الحقائق اليوم بسبب بعض المواقف الملتبسة، ويظهر وكأن مواجهة الصهيونية هي واجب أو وظيفة تضطلع بها بعض الفئات الإسلامية دون غيرها، مع أن المسيحية الحقة هي أولى بهذه العداوة، والحديث في هذه النقطة يطول...
ثامناً، نعيد إلى الأذهان ما قلناه سابقاً بأن تبرئة اليهود من دم المسيح عليه السلام وفق إعلان البابا بولس السادس، في 28-10-1965، كان نتيجة نصيحة من الرئيس الأميركي الكاثوليكي الوحيد جون كينيدي، ليتم حشد الطاقات في وجه الاتحاد السوفياتي والإلحاد وقتها، أي كانت بدافع سياسي مرحلي، وما نظن أن مفاعيل هذه الدعوة مستمرة إلى يومنا هذا، بعدما تبدل العالم، وانتهى «الخطر الشيوعي»، وهذه النقطة أيضاً تحتاج إلى تفصيل واسع...
تاسعاً، ننصح الجميع بالاطلاع على الحوار الساخن الدائر في المجتمع الصهيوني حول حتمية نهاية هذه الدولة المصطنعة، وما أكده رئيس الحكومة الأسبق إيهود باراك على النص المشهور المقتبس من التراث اليهودي التاريخي، الذي تتداوله جميع فئات المجتمع الصهيوني، والذي يجزم بأن عمر هذا الكيان لن يدوم أكثر من ثمانين عاماً، على أبعد تقدير، وننقل هنا ما نقرأه عنهم، وما يتداولونه بحديث يومي ولا نقحم قناعاتنا، من النصوص الإسلامية وغيرها، بل نكتفي بالنصوص الصهيونية، ومحاولة نتنياهو الخروج من هذا الجدل الساخن بقوله إن دولة «حاشمونائيم» دامت أكثر من ثمانين عاماً، أي سبعة وثمانين عاماً، وهو يكذب هنا أيضاً، إذ إن «حشمونائيم» ليست دولة، بل حكم ذاتي تحت رعاية اليونان ثم الرومان، في القرن الذي سبق سيدنا المسيح عليه السلام، أي أنه هرب من تحت الدلف لتحت المزراب، كما يقولون.
هذا الحوار الساخن يدور في أرجاء هذا الكيان المؤقت، وغيره كثير، والنصوص أكثر من أن تحصى، ولا ننصح أحداً بأن يبني آماله على بقاء هذا الكيان أو استمراريته، ونشمل بهذه النصيحة اللبنانيين جميعاً، والمطبّعين في الخليج العربي وغيره، وللبحث صلة أيضاً وأيضاً.
غبطة البطريرك، بكل محبة وتقدير لدوركم، نقدم نصيحة من مواطن يرى أن العيش الواحد واجب إنساني ووطني وديني، ويرى أن لبنان لا يقوم إلا بجناحين، ويرى كذلك أن الأزمات مهما كانت شديدة، تؤكد على أهمية هذا الوطن ورساليته، كما قال البابا يوحنا بولس الثاني، ويرى أن اللبناني أخو اللبناني، أحبّ أم كره (اقتباساً من الحديث الشريف)، ويرى أن هذه الأزمة الشديدة، وهذا الليل البهيم سينبلج عن مستقبل أفضل للبنان وسائر أهله، وللتعايش رغم أنف الحاقدين والمتآمرين والمتفوّقين بسخاء على المؤامرات والفتن.
ونرجو أن تساهم من موقعك في التأكيد على أن الصهيونية عدوّة للبشر جميعاً، ولكلّ اللبنانيين ضمناً، وأن مستقبل لبنان لن يقرّره الأميركي ولا الصهيوني ولا غيرهما، بل تبنيه إرادة اللبنانيين، وأن الأزمة التي لا تقتلني تزيدني قوة.
وإلى اللقاء إن شاء الله.