نجاة فضل الله ـ الأخبار
رغم أنّ مصطلح الدروع البشريّة رُبّما لم يُستخدم بشكل حرفي، إلّا أنّ المغزى منه تكرّر على ألسن وصفحات كثيرين في الأيام الماضية. وتكرار هذا المفهوم هو على أسوأ تقدير تآمر ورقص على الدماء، وعلى أحسن تقدير سذاجة وتبنٍّ لدعاية استعماريّة قديمة. ولنفهم كيف وصلنا إلى هنا، لا بدّ من أن نعود إلى أصل هذا المفهوم القديم وتاريخ استخدامه.
ظهر مصطلح الدروع البشريّة للمرة الأولى في الصحافة الأميركيّة في أواخر القرن التاسع عشر في الصحافة أثناء تغطيتها للحرب الأميركيّة ــ الإسبانيّة في كلّ من كوبا والفليبين. وقد استخدمت الصحافة الأميركيّة هذا المصطلح تحديداً في تبرير الوفيات في الفليبين التي تجاوزت آنذاك المئتي ألف ضحيّة بحسب التقارير.
وفي بدايات القرن العشرين، لاقى مصطلح «الدروع البشريّة» رواجاً أكبر في الصحافة الأوروبيّة، وخصوصاً في تناول الحروب التحرّريّة في المستعمرات (رغم أنّه لم يكن مصطلحاً قانونياً بعد بل كان مصطلحاً إعلاميّاً). على سبيل المثال، نشرت إحدى الصحف الإيطاليّة عام 1936 رسماً تصويريّاً يُظهر المقاتلين ضمن حركات مقاومة الاستعمار في أثيوبيا وهم يركضون ليحتموا تحت خيمة الصليب الأحمر. وكانت هذه الصورة جزءاً من الدعاية الإعلاميّة التي استخدمتها إيطاليا لتبرير تدميرها لمراكز صحيّة في أثيوبيا أمام الرأي العام، ولتصوير المقاتلين الأثيوبيّين كهمجيّين يُعرّضون حياة المجتمع كاملًا للخطر.
أمّا في حرب الولايات المتحدة الأميركيّة ضدّ فيتنام، فقد ذهبت الصحافة الأميركيّة أبعد من ذلك، معتبرةً أنّ المقاومة في فيتنام «تسرّبت» إلى أعماق المجتمع، وصارت تستخدم النساء والأطفال لا كدروع للاختباء خلفها فقط، بل أيضاً كشركاء لها في القتال، ما حوّل استهدافهم جميعاً أمام الرأي العام آنذاك أمراً مشروعاً.
نشرت صحيفة إيطالية عام 1936 رسماً يُظهر المقاومين في أثيوبيا، تحت خيمة الصليب الأحمر، مبرّرةً استهداف المراكز الصحيّة
ويقول نيكولا بيروجيني، وهو أستاذ في علم النفس الاجتماعي في جامعة «ادنبره» وأحد مؤلّفي كتاب «الدروع البشريّة: تاريخ شعوب على خطّ النار»، أنّ مفهوم الدروع البشريّة كان حلّا ًلمشكلة واجهتها الدول الكبرى في المرحلة الانتقاليّة إلى ما بعد الاستعمار (بصرف النظر طبعًا عن أنّ ما بعد الاستعمار هو هيمنة من نوع آخر). أثناء الاستعمار، كانت القوانين الدوليّة الموجودة هي لحماية المدنيّين من المُستعمِرين لا الشعوب الأصليّة، أمّا قوى الاستعمار فلها الحقّ أن تتصرّف كما تشاء، من الناحية القانونيّة، مع الشعوب الأصليّة والمحلّية، التي كان يُنظر إليها كنوع أدنى من البشر. وهذا طبعاً ليس كلاماً عاطفياً بل هو الخطاب الطبّي والأكاديمي السائد آنذاك، الذي كان يحشد المبرّرات العلميّة والطبية والاجتماعيّة والثقافيّة التي تُبرهن فعلًا أنّ العرق الأبيض متفوّق على غيره. لذلك، ففي المرحلة الانتقاليّة إلى ما بعد الاستعمار، وجدت هذه القوى نفسها أمام مشكلة وهي أنّ هؤلاء الذين لم تكن تنظر إليهم كبشر صاروا يتمتّعون ـــ نظريّاً ـــ بنفس الحقوق والحماية في القوانين والشرائع الدوليّة. بحسب بيروجيني، فإنّ مفهوم ومصطلح الدروع البشريّة نشأ هنا وتضاعف استخدامه كوسيلة لحلّ هذه المشكلة، لأنّه يسمح للجيش المُعتدي أن يقتل ويدمّر كما يشاء، وكما كان يفعل، من دون أن تعيقه القوانين الجديدة.
وفكرة الدروع البشريّة هي بحدّ ذاتها عنصريّة استعماريّة، تعيد إنتاج قصّة الجيش الغربي الحضاريّ في مواجهة الهمجيّين المتخلّفين. فهي تفترض حكماً أن الجيش المُعتدي حضاريٌّ وإنسانيّ لا يريد قتل المدنيّين، فهو لديه أهداف محدّدة عسكريّة دقيقة مرتبطة بالحرب، لكنّ عدوّه المحلّيّ «همجيٌّ » يحتمي خلف المدنيّين، فيُضطر الجيش عندئذٍ إلى المخاطرة بأرواح هؤلاء المدنيّين الذين يحرص هو عليهم.
تُعرّف معاهدة جنيف الدروع البشريّة على أنّه استخدام المدنيّين لحماية المراكز العسكريّة من الاستهداف. والمثير للسخرية أنّ هذا التعريف، الذي أُضيف للمعاهدة عام 1977، يحرّم استخدام الدروع البشريّة لأنّها «تمنع الاستهداف »، في حين أنّها لا تفعل ذلك، فهي لم تمنع اعتداءً من الجيوش المحتلّة والمعتدية قطّ، بل تُستخدم كشمّاعة إعلاميّة لتبرير القتل والتدمير والإجرام.
اليوم، تتصدّى الدروع الإعلاميّة لأيّ نقد للاعتداءات الإسرائيليّة على لبنان، مدّعيةً أنّ احتماء أشخاص «مستهدفين » ضمن المدنيّين هو ما يُعرّض المدنيّين للخطر (لا الصاروخ الذي يسقط فوق رؤوسهم). المثير للسخرية هنا أيضاً هو أنّ تعريف مصطلح الدرع البشري (وهو كما تمّت الإشارة سابقاً، مصطلح عنصريّ استعماريّ نشأ ليُبرّر القتل والتدمير على نطاق واسع)، لا يشمل هذه البروباغندا الجديدة. أي إنّ تواجد عنصر مقاتل خارج ساحة المعركة، في منزل أو مطعم أو مأوى أو منتجع أو مستشفى، لا يجعل من هذه المساحة ولا من فيها دروعاً بشريّة، حتّى بحسب تعريف القانون الدولي نفسه. يعني ذلك أنّ الأصوات المرتزقة أو المتآمرة أو الساذجة التي تبرّر اليوم قتل المدنيّين تحاول كالعادة أن تكون ملكيّة أكثر من الملك.
ختاماً، من المؤسف اليوم أنّ الصحافة الغربيّة ليست بحاجة إلى بذل الكثير من الجهد لتبرير المجازر. هنالك أصوات محلّية، مدفوعة أو متطوّعة، تفعل ذلك. فاحتلال العقول يحصل عندما تقنع الناس أنّك تستهدف أهدافاً من نوع معيّن، في حين أنّ أهدافك متعدّدة، تشمل القتل وبثّ الرعب والتهجير والترحيل والتدمير، وتُكرّر المصطلحات التي تنقل لوم الجريمة من القاتل إلى الضحيّة، مثل أضرار جانبيّة ودروع بشريّة. وحتى لو عارض الناس مصطلحاتك بادئ الأمر، سيتسلّل مغزاها إلى العقول مع الوقت. حينئذٍ، بإمكانك أن ترتكب مجزرة مروّعة، والناس وحدها سيبرّرون لك ذلك.