عصري فياض ـ الأخبار
جنين | هو نفسه المخيّم الذي ما زال يقاوم. لم يُسقط الراية. عرف البداية، ورغم ما جرى له لم يعرف النهاية بعد. بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على انطلاق شرارة الكتيبة الجنينية البكر، وعند كلّ محطة، تَبرز حكايا ليست من نسج الأقدار فقط، بل مؤشرٌ إلى دوام الروح رغم زحمة الراحلين والخسائر والجروح. الاجتياح الأخير، الأطول منذ أكثر من عقدين، والذي يحمل الرقم الخمسين في التاريخ الجديد لمقاومة الشعب الفلسطيني، شكّل التقويم الفاصل بين قرار امتلاك الزمام وانتظار السراب ووعود الأوهام. في هذا الاجتياح، كانت قصة الكمين في حارة الدمج، والذي نفذه مقاومان فقط، فأوجع العدو، وأوقع في صفوفه قتيلاً من الضباط وجريحَين.
الثأر لرفاق الدرب
«الحسم» و«الحربوش» لقبان لشابين في مقتبل العمر من المخيّم، انضما إلى المقاومة منذ أمد بعيد. والألقاب في هذا المخيم منتشرة بين الفتيان والشبان، وهي قادمة من موروث اجتماعي يبرز عبر التنشئة في البيت أو الحارات أو الأحياء. هذان المقاومان، كغيرهما، استنفرا بعد دخول قوة خاصة صهيونية إلى طرف المخيم الشمالي الغربي، وتصفية المقاومَين المطاردَين قسم جبارين وعاصم ضبايا، قرب مشفى جنين الحكومي. استعاد «الحسم» و«الحربوش» عهدهما بألّا يرتقيا إلا بعد أن يأخذا معهما بعضاً من الغزاة ثأراً لأصدقائهما ورفاق دربهما اللذين مضوا، وليكون لأرواحهما ثمن يُفتخر ويُحتذى به. انتظرا الغزاة في الحي الغربي حتى صباح الأربعاء، فجاءهما خبر ارتقاء «الوهدان» و«الصوص» و«المنصور»، وزاد عليه الخميس وليلته، ثم أتى الجمعة ليصل خبر ارتقاء «الحازم» (قائد كتائب عز الدين القسام) و«المشارقة» (قائد كتائب شهداء الأقصى) و«أبو الجاسر» (عضو كتيبة جنين). لقد زاد حمل النفس، ولا بد من الثأر.
فطائر الزعتر
طَرق «الحسم» باب أحد المنازل في الحيّ الذي كان فيه، فأطلت عليه سيدة خمسينية. كان الوقت قد تجاوز انتصاف الليل، فطلب منها أن تتصل بمن تعرفه في حارة الدمج، حتى يتأكدا من عدم توغل الغزاة المحتلين هناك، ففعلت وهي سعيدة بممارسة طقس من طقوس الحاضنة الشعبية لهؤلاء الأبطال. شدّا الرحال مع ساعات الفجر، وتسلّلا إلى حارة الدمج وما حولها، يخفيان أسلحتهما تحت معاطف طويلة وثقيلة حتى لا ترصدهما الطائرات المسيرة التي تسبح بكثرة في سماء المخيّم. وصلا عند الرابعة فجراً تقريباً، وشرعا في نداء خفي لسكان المنازل هناك. سمعهما أحد الشبان الذي كان لا يزال مستيقظاً يتابع الأخبار عبر مجموعات التواصل الاجتماعي، فأطل عليهما. سأله أحدهما: هل هناك جيش في هذه الحارة؟ قال: لا، فأجاباه: نشكرك، ومضيا إلى ذلك البيت الذي يعرفان دفئه. وجداه فارغاً فدخلاه،وصمتا منتظرَين كامنيَن. إحدى سيدات الحيّ أحست بهما، فظنتهما شابين تقطعت بهما السبل، وأنهما الآن، عند الثامنة والنصف، جائعان ويحتاجان إلى وجبة إفطار، فأرسلت إليهما مع طفلتها الصغيرة شطائر الزعتر، وعلبتين من المشروبات الغازية، وأوصتها بأن تقول لهما إنهما إذا أرادا التحرك نحو بيوتهما، فإنها ستساعدهما لأن جيش الاحتلال يتقدم نحو الحيّ. لكنّ الشابين أصرّا على البقاء في انتظار الهدف.
الكمين
المسافة بينهما وبين الجنود المتوغلين تقلّ كلّ دقيقة، وصوت إطلاق النار وإلقاء العبوات الصوتية ومقذوفات «الأنيرجا» الصادر عن السرية التي وكِّلت بهذا الحيّ لا يتوقف. قضم أحدهما لقمتين من شطيرة الزعتر، وارتشف شربتين من علبة «الكولا»، بينما أبقى الآخر إفطاره كما هو من فرط شوق ما ينتظر. اقتربت السرية وأصبح ضباطها وعناصرها على مسافة صفر منهما، أي أقل من ثلاثة أمتار. شرعت في تمزيق «الشوادر» التي نصبها الشبان في الأزقة والطرقات لإعماء الطائرات المسيّرة، فأصبحت تحت مرمى فوهتيّ «الحسم» و«الحبروش». ارتدى هذان الأقعنة السوداء، ودققا في عمق الهدف، فيما شريط رفاقهم الماضين يمرّ من أمامهم، ثم ضغطا على الزناد، وأوقعا ما أوقعا في اشتباك عنيف دام خمس دقائق، ثم انسحبا في الاتجاه المعاكس. ولحسن حظهما، كان هناك باب آخر للبيت، من الجهة الشرقية، فمضيا نحوه وتمكنا من الإفلات.
الشهادة
خرجا معاً بحذر نحو الجهة الشرقية من الحيّ بحذر شديد، حيث كانت معظم البيوت صامتة وكأنها مهجورة. سارا في زقاق في اتجاه الجنوب لمسافة ثلاثين متراً، ثم انعطفا غرباً بقصد الوصول إلى طلعة الغبس التي تفصل المخيم عن المدينة من الجهة الشرقية، وقبل أن يصلا إلى تلك الطلعة التي يفصلهما عنها بيتان هما بيت «أبو خلدون» وبيت «أبو مراد»، اكتشفهما قناصة الجيش المحتل الذين كمنوا سابقاً في بيت «أبو خلدون»، ليرتقيا بعد اشتباك قصير. لقد وفيا بالعهد، ولحقا برفاقهما حيث البيعة النشيد... بيعة «كتيبة جنين».
بوابة صيدا موقع إخباري متنوع ينطلق من مدينة صيدا ـ جنوب لبنان، ليغطي مساحة الوطن، والأمة العربية، والعالمين الإسلامي والغربي.. يقدم موقع (www.saidagate.com) خدمة إخبارية متنوعة تشمل الأخبار السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإسلامية، والمقالات المتنوعة.. تقوم سياسة الموقع على الحيادية، والرأي والرأي الآخر، يستقي الموقع أخباره، من تغطيته للأحداث، ومن وكالات الأنباء العربية والعالمية..