محمد شعبان أيوب ـ الجزيرة نت
في عام 1982، نشر عوديد ينون -وهو دبلوماسي وصحفي إسرائيلي عمل في وزارة الخارجية الإسرائيلية- مقالا تحليليا في مجلة "كيفونيم" (اتجاهات) التابعة للمنظمة الصهيونية العالمية، حمل عنوان "إستراتيجية لإسرائيل في ثمانينيات القرن العشرين"، وحظي المقال باهتمام واسع واشتهر حتى ظهر مصطلح "خطة ينون" نسبة إليه.
قدم هذا المقال تصورا إستراتيجيا يرسم ملامح مستقبل إسرائيل في محيطها العربي، من خلال التركيز على فكرة تفتيت الدول المجاورة إلى كيانات أصغر على أسس طائفية وإثنية، بما يضمن بقاء التفوق الإسرائيلي.
تقييم ينون للمحيط العربي حول إسرائيل
يرى ينون أن النظام الدولي مطلع الثمانينيات دخل طورا غير مسبوق يفرض صياغة منظور إستراتيجي جديد وآليات تنفيذ مختلفة، ويذهب إلى أن الركائز العقلانية والإنسانية التي قامت عليها الحضارة الغربية تتعرض لانهيار متسارع، لأن الغرب نفسه يتآكل تحت ضغط مزدوج من الاتحاد السوفياتي والعالم الثالث، في سياق يصاحبه صعود نزعات معاداة السامية، وفي هذا الأفق تصبح إسرائيل -حسب قوله- "الملاذ الأخير لليهود".
وفي قراءته للجوار العربي، يزعم أن الفضاء العربي الإسلامي المحيط بإسرائيل تشكَّل تاريخيا عبر تقسيمات فرنسية وبريطانية أنتجت نحو 19 دولة غير متجانسة عرقيا وطائفيا، معتبرا أن بنية الأقليات والأكثريات المتصارعة تجعل هذه الكيانات عرضة للتشظي.
وحسب هذا التصور، فإن تفكك الهياكل القُطرية إلى أقسام عشائرية ومناطقية وأقلوية سيقيد قدرتها على تحدي إسرائيل ويجعلها ضعيفة تابعة.
يمضي ينون في تفكيك مواطن الضعف في العالم العربي، من وجهة نظره، عبر تسليط الضوء على ما يصفها بالهشاشة البنيوية في الكيانات الوطنية والاجتماعية، ليخلص إلى نتيجة مفادها أن المصلحة الإسرائيلية تقتضي الدفع باتجاه تفتيت المنطقة العربية إلى فسيفساء من المكونات الطائفية والعرقية.
ويعتبر أن أي صراع داخلي عربي عربي، مهما كان شكله، يمثل مكسبا لإسرائيل على المدى القصير.
وفي هذا السياق، ينظر إلى التجربة اللبنانية، بما حملته من حروب أهلية وانقسامات، على أنها نموذج استباقي يمكن أن يتكرر بصيغ مختلفة في بقية الأقطار العربية، فالاضطرابات -من وجهة نظره- لا تمثل مجرد حالة عابرة، بل تؤسس لسابقة تُبنى عليها إستراتيجيات إسرائيلية مستقبلية على المستويين القريب والبعيد.
ويشدد الكاتب على أن الهدف العاجل للسياسة الإسرائيلية ينبغي أن ينصبّ على إضعاف القدرات العسكرية للدول العربية المحيطة بشرق إسرائيل، في حين يتمثل الهدف الأبعد مدى في إعادة تشكيل الخريطة الإقليمية عبر نشوء كيانات منفصلة، تُعرّف نفسها على أسس دينية وعرقية متميزة، بما يضمن لإسرائيل تفوقا إستراتيجيا طويل الأمد.
تفكيك مصر مع رؤية دولية قبطية
رأى عوديد ينون أنّ اتفاقية كامب ديفيد لعام 1978 -التي أبرمها مناحيم بيغن وأنور السادات برعاية أميركية- لم تخدم المصالح الإستراتيجية لإسرائيل على المدى الطويل.
فهو يرى أن سياسة السلام وإعادة الأراضي المحتلة للعرب من خلال الاعتماد على الولايات المتحدة تعوق تحقيق الاستفادة من العداء العرقي والإثني والديني داخل البلدان العربية، لإضعاف هذه الدول المحيطة بها.
وينقم عوديد على فكرة الانسحاب الإسرائيلي من سيناء وخليج السويس الغني بالثروات، ويرى أن "استعادة شبه جزيرة سيناء بكل ثرواتها وقدراتها الحالية تشكل أولوية سياسية أعاقتها كامب ديفيد واتفاقيات السلام".
وقد اعتبر ينون أنّ مصر كان ينبغي أن تواجه مسارا معاكسا، يقوم على تفكيكها وإعادة الوضع السابق الذي مكّن إسرائيل من السيطرة على شبه جزيرة سيناء، وفي هذا السياق أبدى ينون تطلعه إلى بروز كيان قبطي مسيحي في صعيد مصر، كجزء من هندسة جيوسياسية جديدة.
وتوقع ينون أن انقسام مصر وتمزقها إلى عدة بؤر سيجعل دولا -مثل ليبيا والسودان بل حتى الدول التي تقع أبعد ذلك- غير قادرة على الاستمرار والوجود في شكلها الحالي، أو كما يقول "سوف تنضم إلى سقوط وتحلل مصر".
وأضاف أن "التصور بوجود دولة مسيحية قبطية في مصر العليا متاخمة لعدة دول ضعيفة ذات سلطات شديدة المحلية وبلا حكومة مركزية هو مفتاح التطور التاريخي الذي تأخر تحقيقه فقط بسبب اتفاقية السلام، ولكنه يبدو حتميا على المدى الطويل".
تفكيك بلاد الشام إلى دول إثنية وطائفية
رأى عوديد أيضا أن المصلحة الإسرائيلية العليا تكمن في تقويض الدولة الأردنية وتفكيكها، وقد اعتبرت الورقة أن تشجيع انتقال الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى شرق الأردن يشكل الحل الأنسب للتخلص من الكتلة السكانية الفلسطينية المتزايدة داخل الأراضي التي سيطرت عليها إسرائيل في 1967.
كما تقاطعت أفكار عوديد ينون مع تصوّرات متداولة في لبنان منذ استقلاله عام 1943 حول هشاشة وحدة أراضيه، وهي تصوّرات تحوّلت لاحقا إلى ما يشبه "نظرية المؤامرة" التي تتوقع إعادة تركيب البلاد على أسس طائفية وإثنية.
ومع اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، اكتسب هذا الطرح زخما أكبر، إذ شاع الاعتقاد بوجود مشاريع خارجية تستهدف تقسيم لبنان إلى كيانات متمايزة، وجاءت ورقة ينون لتغذي مثل هذه المخاوف وتُعطيها بعدا إقليميا أشمل، حيث اعتبر تقسيم لبنان إلى 5 كيانات مثالا يجب أن يُنفذ في بلدان أخرى وخاصة سوريا والعراق.
فمن وجهة نظره، يجب أن تتفكك سوريا وفقا لكيانها الإثني والديني إلى عدة دول، مثلما وقع في لبنان إبان الحرب الأهلية، بحيث تصبح هناك دولة علوية في الساحل، ودولة سنية في حلب، ودولة سنية أخرى في دمشق "معادية لجارتها الشمالية"، والدروز سوف يقيمون دولتهم في الجولان وحوران وشمال الأردن.
وبالنسبة للعراق وقتئذ، فقد رآه عوديد بمثابة التهديد الأكثر خطورة على المدى البعيد بالنسبة لإسرائيل، ليس فقط بسبب موقعه الجيوسياسي، وإنما بالأساس لامتلاكه احتياطات نفطية تُمكّنه من لعب دور محوري في العالم العربي. ووفق تحليله، فإن الحرب العراقية الإيرانية (1980–1988) وفّرت فرصة إستراتيجية قد تؤدي إلى تفكيك العراق من الداخل.
واعتبر أن الهدف الإسرائيلي ينبغي أن يكون الدفع في اتجاه تقسيم العراق إلى 3 وحدات رئيسية على أساس طائفي عرقي: كيان شيعي يتمركز في البصرة جنوبا، وآخر سني في بغداد ومحيطها، في حين يقيم الأكراد كيانهم في الشمال مع الموصل كعاصمة رمزية.
وربط ينون هذا السيناريو بإرث التقسيمات الإدارية العثمانية التي حكمت المنطقة لقرون، مشيرا إلى أن إعادة إنتاج تلك الصيغة سيحول العراق إلى فسيفساء سياسية ضعيفة العصب، غير قادرة على تهديد إسرائيل أو دعم جبهة عربية موحدة ضدها. ومن اللافت أنه رأى أن الدول الخليجية مرشحة للتحلل، بحسب زعمه، دون أن يوضح آلية ذلك وتفاصيله.
ويحض ينون القيادة السياسية والمفكرين في بلاده إلى تلافي أخطاء الصليبيين حينما احتلوا سواحل فلسطين والساحل الشامي مع إبقاء كثافتهم السكانية في هذه المناطق المحدودة فقط، دون التغلغل في الداخل الفلسطيني، حيث الجبال وحتى المناطق الخالية الصحراوية، لأنها تمثل العمق الآمن لبقاء إسرائيل دائما.
خطة ينون في منظور المفكرين البارزين
سريعا ما ذاعت الترجمة الإنجليزية التي أنجزها المفكر الإسرائيلي إسرائيل شاحاك لنصّ ينون، فقد قدّمها في كتيّب بعنوان "الخطة الصهيونية للشرق الأوسط (1982)"، وتناقلتها منابر بحثية وسياسية على نطاق واسع.
وفي المقدمة التي كتبها شاحاك، وصف هذه الخطة بأنها أقرب إلى خيالٍ إستراتيجي، لكنه يعكس -في نظره- توجها فعليا لدى قيادة تلك المرحلة ممثلة بأرييل شارون ورافائيل إيتان.
كما رسم مقارنات مع تيارات الجغرافيا السياسية الألمانية التي ازدهرت بين 1890 و1933 ثم تبنّاها هتلر في أوروبا الشرقية، ومع بعض أفكار المحافظين الجدد في الولايات المتحدة التي رأى أنها تؤثر في رؤية ينون.
بيد أن شاحاك رأى أن "خطة ينون" ترسخ للحرب والتوسع فيها والاستعداد الدائم لها، خاصة أن هذا الخطاب الذي قدمه عوديد كُتب بلغة أقرب إلى اللغة العسكرية، ورأى شاحاك أن استخدام هذه اللغة يعد بديلا للخطابات الشفوية التي لم تعد تجدي نفعا، ولكي يتعلمها هؤلاء العسكريون ثم يُقنعون بها الآخرين.
ويؤكد شاحاك أن إسرائيل كانت تتصرف دائما بهذه الطريقة، بل يقول "أنا نفسي أتذكر جيدا كيف (قبل أن يكون في صفوف المعارضة) كان يتم شرح ضرورة الحرب لي وللآخرين قبل عام من حرب 1956، وتم شرح ضرورة الاستيلاء على سائر غربي فلسطين (غزة وسيناء ومصر) عندما تحين الفرصة في أعوام 1965-1967".
ومن اللافت أن مقالة ينون أثارت موجة من المتابعات والردود منذ صدورها وحتى يومنا هذا، فقد استخدم الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي -الذي اعتنق الإسلام- مقالة ينون في سياق أطروحاته النقدية للصهيونية.
ففي كتابه "قضية إسرائيل: الصهيونية السياسية"، أدرج غارودي نص ينون بوصفه دليلا على وجود مخطط منظم لطرد العرب من "أرض الميعاد" وإعادة تشكيل المنطقة عبر تفكيك الدول العربية المحيطة.
من اللافت أن خطة عوديد ينون لم تبق مجرد نص تحليلي معزول، بل جرى تبني أفكارها وتطويرها في وثيقة سياسات معروفة بعنوان "كسر نظيف: إستراتيجية جديدة لتأمين العالم" صدرت عام 1996 عن معهد الدراسات السياسية والإستراتيجية المتقدمة في واشنطن، وقاد فريق إعدادها ريتشارد بيرل، الذي أصبح لاحقا أحد أبرز العقول المحركة لإستراتيجية غزو العراق في عهد إدارة جورج بوش عام 2003.
هل يتبع نتنياهو ووزراؤه خطة ينون اليوم؟
ويبرز صدى خطة ينون في سياسة نتنياهو والتيار اليميني الحاكم معه، ذلك أن نتنياهو يتجاوز في سياساته حدود مشاريع الترسيم داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، ففي سبتمبر/أيلول 2019 وعد قُبيل الانتخابات بضم غور الأردن وشمال البحر الميت وتسارع الاستيطان إن أعيد انتخابه.
ولا يرى نتنياهو حرجا في التدخل المباشر في لبنان وسوريا وإيران عبر ضربات عسكرية أو عمليات استخباراتية أو دعم للأقليات فيها، بما يرسخ فلسفة التفتيت وإبقاء المحيط العربي في حالة وهن وانقسام.
ولا تبتعد تصريحات نتنياهو ومواقف وزراء في حكومته عن أحلام عوديد ينون والنبوءات التوراتية، فقد أعلن نتنياهو أخيرا أنه في "مهمة روحية" لتحقيق مشروع إسرائيل الكبرى، وظهر وزير المالية بتسلئيل سموتريتش في باريس عام 2023 على منصة تحمل خريطة تشمل الأردن ضمن إسرائيل، ثم مضى في 2025 للترويج علنا لمشروع "إي 1" الاستيطاني حول القدس باعتباره "يدفن فكرة الدولة الفلسطينية".
كما دعا وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ومعه نتنياهو وسموتريتش، إلى تشجيع هجرة سكان غزة إلى مصر أو غيرها من الدول وإعادة الاستيطان هناك مع الإعلان مرارا عن عدة عمليات عسكرية آخرها التلويح باحتلال مدينة غزة، وسط أكبر مجاعة تتعرض لها المدينة منذ النكبة، وأخيرا أعلن وزير الاتصالات الإسرائيلي شلومو كرعي أن ضفتي نهر الأردن "جزء من أرض إسرائيل".
وهكذا يبدو أن خطة الدبلوماسي الإسرائيلي عوديد ينون لاقت -ولا تزال تلقى- أصداء واسعة خارج إسرائيل وداخلها، وتجد لها في التيارات الصهيونية اليمينية اليوم مؤيدين على أرض الواقع، وفي التحالف الحاكم جنودا مخلصين.