د. صريح صالح القاز ـ بوابة صيدا
تُعدّ حركة "يش غفول" (Yesh Gvul) إحدى أبرز الحركات الاحتجاجية التي نشأت داخل إسرائيل، حيث تأسست عام 1982 في أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان، كحركة تدافع عن حق الجنود في رفض الخدمة العسكرية لأسباب أخلاقية وسياسية.
تأسست الحركة على يد مجموعة من جنود الاحتياط الذين رفضوا المشاركة في اجتياح لبنان، احتجاجًا على الانتهاكات التي وقعت بحق المدنيين اللبنانيين، خاصة في مجزرتي صبرا وشاتيلا.
تمثل "يش غفول" جزءًا من التيارات الفكرية التي تناهض عسكرة الدولة الصهيونية واحتلال الأراضي الفلسطينية، في مواجهة المبدأ الصهيوني الذي يقوم عليه الجيش الإسرائيلي (جيش الشعب)، حيث تُعتبر الخدمة العسكرية التزامًا قوميًّا وأخلاقيًا لا يُناقش.
يقع مقر الحركة الرسمي في تل أبيب، ولها امتداد تنظيمي داخل الجامعات الإسرائيلية الكبرى، مثل جامعة تل أبيب، الجامعة العبرية، وجامعة بن غوريون.
تتعاون الحركة مع منظمات حقوقية بارزة مثل "بتسيلم"، و"شوفريم شتيكا" (كسر الصمت)، و"نيو بروفايل"، وتشكل جزءًا من تيار ما بعد صهيوني يعارض سياسات الاحتلال من داخل المنظومة الإسرائيلية ذاتها.
برز دور "يش غفول" من جديد خلال العدوان الإسرائيلي الواسع على قطاع غزة الذي بدأ في أكتوبر 2023، حيث مثّلت واجهة ناعمة لكنها مؤثرة في مقاومة عسكرة المجتمع وانتقاد سلوك الجيش.
مع تصاعد العمليات العسكرية، كثّفت الحركة نشاطها واستقبلت مئات طلبات الدعم من جنود احتياط وطلاب مدارس ثانوية رفضوا أداء الخدمة العسكرية أو المشاركة في العمليات القتالية.
قدمت دعمًا قانونيًا وإعلاميًا موجّهًا لرفض أوامر الخدمة، ورافقت عشرات الحالات أمام المحاكم العسكرية، خصوصًا لمن رفضوا الخدمة في المناطق المحتلة مثل الضفة الغربية وغزة.
أحدثت الحركة صدعًا في العقيدة العسكرية الإسرائيلية، التي تقوم على الانصياع المطلق للأوامر، عبر الدفع بمفهوم "رفض الضمير" كحق أخلاقي وقانوني.
ساهمت شهادات الرافضين التي وثّقتها "يش غفول" في تأليب الرأي العام على صورة الجيش، وفضح زيف السردية التي تصف الجيش الإسرائيلي بأنه "الأكثر أخلاقية في العالم".
تُعد إفادات الرافضين التي توثقها "يش غفول" مادة أساسية في ملفات تُرفع إلى محاكم وهيئات دولية لمساءلة قادة الجيش الإسرائيلي بتهم ارتكاب جرائم حرب.
على سبيل المثال، في العام 2021، استخدمت منظمات أوروبية (مثل المركز الأوروبي للديمقراطية وحقوق الإنسان) شهادات منشورة من "يش غفول" و"كسر الصمت" في ملف جرائم الحرب في غزة عام 2014.
خلال "طوفان الأقصى" (2023–2025)، تُستخدم إفادات الرافضين ضمن ملفات تُعدّها منظمات كـ"هيومن رايتس ووتش" و"أمنستي"، لتوثيق تهم القصف العشوائي واستهداف المدنيين.
تم الاستشهاد بإفادات "يش غفول" في نقاشات داخل البرلمان الهولندي عام 2022، مما أدى إلى تجميد أشكال من التعاون الدفاعي مع إسرائيل، تحت ضغط التقارير الحقوقية.
في ديسمبر 2023، ألقت النائبة الأمريكية إلكساندريا أوكاسيو-كورتيز خطابًا في الكونغرس الأمريكي استشهدت فيه بشهادات "يش غفول"، داعية إلى وقف التمويل العسكري غير المشروط لإسرائيل.
في جلسات مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، تُستخدم شهادات الرافضين من "يش غفول" لدعم القرارات الأممية المُطالِبة بوقف الانتهاكات، لا سيما أن هذا الاعتراض صادر من داخل إسرائيل، مما يُسقط اتهام "العداء للسامية" عن المنتقدين.
تتلقى "يش غفول" دعمًا مباشرًا من منظمات أوروبية وأمريكية، مما يجعل أي محاولة لقمعها تُفهم دوليًا كمساس بحرية التعبير وحقوق الإنسان.
تحظى الحركة بتأييد نخب أكاديمية وثقافية داخل إسرائيل، ما يمنحها غطاءً شرعيًا يصعب اختراقه أو محاصرته إعلاميًا.
تُعدّ الحركة أداة رمزية خطيرة على الدولة الإسرائيلية؛ إذ إنها تفتح الباب أمام فكرة "الانشقاق من الداخل"، وتمنح شرعية أخلاقية للرافضين بدل شيطنتهم.
"يش غفول" لم تغيّر موازين القوة العسكرية على الأرض، لكنها نجحت في ضرب شرعية إسرائيل في عمقها الأخلاقي والقانوني، وخلقت ثغرة داخلية باتت تُستخدم دوليًا لمحاكمة تل أبيب من منطلقات إنسانية، لا أيديولوجية.
في ظل استمرار الحرب على غزة تبقى "يش غفول" قنبلة ناعمة تهدد الرواية الصهيونية من داخلها، وتُبقي على الوعي الأخلاقي حيًا في وجه التوحش العسكري.
بوابة صيدا موقع إخباري متنوع ينطلق من مدينة صيدا ـ جنوب لبنان، ليغطي مساحة الوطن، والأمة العربية، والعالمين الإسلامي والغربي.. يقدم موقع (www.saidagate.com) خدمة إخبارية متنوعة تشمل الأخبار السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإسلامية، والمقالات المتنوعة.. تقوم سياسة الموقع على الحيادية، والرأي والرأي الآخر، يستقي الموقع أخباره، من تغطيته للأحداث، ومن وكالات الأنباء العربية والعالمية..