زيزي إسطفان ـ نداء الوطن
هل تذكرون تلك الأيام التي كان فيها المعلّم سيّد الصفّ بلا منازع، يهزّ إصبعه فتهتزّ قلوب الطلاب خشية وخوفاً؟ هل تذكرون كيف كان الأهل يردّدون بخشوع أمام الأستاذ " اللحمات إلك والعضمات إلنا؟" أنتم إذاً من جيل انقرض، تربّى على احترام المعلّم وتبجيله. أما جيل اليوم فما عاد يقف للمعلّم ليوفّيَه التبجيل. وما عاد يطأ أرض المدرسة بتهيّب ورهبة... التلميذ اختلف وكذلك المعلم والمدرسة والقرطاسية واللوح والقلم...
بين المعلم الذي كان" شمعة تحترق لتنير طريق الأجيال" وفق ما كان يتردّد في مواضيع إنشاء تلك الأيام، والمعلم الذي صار "تقني صيانة" يجاهد لتشغيل اللوح الذكي وإعادة وصل شبكة الإنترنت تبدّل دور الأستاذ. وبين الطالب الذي كان يراجع درسه قبل كل امتحان وكأنه امتحان مصيري ويتصبّب عرقاً إذا ما ناداه الأستاذ، والطالب "الكوول" الذي يصارع المنبّه كلّ صباح ويزجر في وجه أستاذه ولا ينسى الـ follow على تيك توك، تغيّر بروفايل الطلاب.
واقع لا ينكره الأساتذة وإن كانت إدارات المدارس تسعى لضبطه وتأطيره في أطر حديثة تواكب الواقع الافتراضي الجديد. الإنترنت، الهواتف الذكية، الألواح التفاعلية، الذكاء الاصطناعي، منصات التعليم الإلكترونية والتعليم عن بعد، معطيات فرضت نفسها على الواقع التعليمي والتعلّمي ودخلت في منافسة حامية مع الأساتذة وعدّلت علاقتهم بالطلاب.
اكتب بالمسمار!
"يأتون أحياناً إلى الصف بلا مقلمة" تقول إحدى المعلمات و "يطلب مني أحدهم قلماً ليكتب هذا إن قرّر الكتابة. أحتفظ دوماً بأقلام إضافية. غيره قد يأتي بلا كتاب ولا دفتر". نتذكر أيام الـ Parker والـ Penrex والكتابة بقلم الحبر السائل والخراطيش الاحتياطية التي كنا نجبر عليها وأسأل المعلمة الصديقة إن كانت تلك القواعد لا تزال تطبّق في الصفوف؟ تضحك وتجيب: "القاعدة اليوم: اكتب بأي قلم أمامك، اكتب بالمسمار إذا أردت لكن اكتب. لا أستطيع إجبار التلميذ إن قرر عدم الكتابة وأكثر من نصف الصف لا يكتب ما أشرح".
أستاذ جهاد يتحسّر على أيام ماضية قائلاً: "كنا إذا مررنا في الممرّات يعمّ الصمت رهبة وخشية وإذا دخلنا الصف يقف الجميع احتراماً. اليوم أدخل الصفّ وأجلس على مقعدي وأنتظر دقائق حتى يتنبّه الجميع إلى وجودي. كنا نلقي دروسنا العربية خطباً يتلقّفها التلاميذ كحكم خالدة. اليوم مطلوب مني أن أكون خبيراً في التطبيقات وحتى مخرج فيديوات تعليمية وإلا على العربي السلام".
حتى الغش تغيّر في زمن التكنولوجيا فبعد أن كان التلميذ يخبئ "الرشيتة" في كمّه، صار يخبّئ الإجابة في محادثة سرية على هاتفه "يستخدمون الإيموجي للغش. نصادر الهواتف فيرتدون الساعات الذكية. نقطع الإنترنت عن الصف أثناء الامتحانات فيحملون راوتراً نقالاً يخفونه في الشنط".
صورة متطرفة قد لا يوافق عليها كل الأساتذة. ولا بدّ من الاعتراف أنه منذ الأزل كانت الصفوف تجمع بين "الشاطرين" و "الكسلانين" بين المنضبطين والمشاغبين.
لكن ما يجمع عليه الكل أن ذاك الانضباط الذي كان يميز المدارس قد تراجع إلى حد كبير. الجرس، الوقوف في الصف، صعود السلالم بهدوء، الالتزام بقواعد المدرسة وحتى إنشاد النشيد الوطني صباح كل اثنين أمور ما عادت تعني الكثير للتلاميذ وإدارات المدارس. وهو ما دفع بوزيرة التربية في الحكومة الجديدة إلى إصدار تعميم للمدارس بفرض النشيد الوطني صباح كل اثنين. لكن، هل يكفي التعميم للانتماء الوطني؟ وماذا عن مدارس المهدي؟ هل تلقن النشيد الوطني قبل سواه؟ وماذا عن بعض الجامعات التي ترفع أعلام أحزاب قبل العلم اللبناني؟
من موقعها الأكاديمي والتربوي كمسؤولة في إحدى المدارس لا ترى الاختصاصية في علم النفس التربوي ديانا أبو نادر تراجعاً في الانضباط، بل على العكس تطوراً في التعاطي الإيجابي مع الطلاب وتقول "الاختصاصيون النفسيون والتربويون موجودون على الأرض ليساعدوا الطلاب على الالتزام بالانضباط بطريقة إيجابية.
الطالب المشاغب، غير المنضبط أو الكسول واللامبالي ما عاد منبوذاً بل محاطاً من قبل اختصاصيين لاكتشاف أسباب تصرفه وما يعانيه من مشاكل نفسية أو اجتماعية أو عائلية أو مشاكل معرفية تمنعه من التركيز أو الانضباط. في ما مضى كان هؤلاء يوسمون بالكسل، اليوم نتفهم سبب كل سلوك أرعن وفوضوي ونساعد في توجيه صاحبه وإيجاد حلول له. نعمل مع الأساتذة ليتفهّموا بدورهم أن تصرفات التلاميذ وقلّة انضباطهم ليست موجّهة ضدهم بل هي تعبير عن مشكلة عالقة في مكان ما". تساهل أم تطوّر؟ إشكالية لا تزال تثير الكثير من الأخذ والرد.
قم للمعلم...
في ما مضى كان "الأستاذ" هو الفهيم العليم صاحب المكانة والنفوذ يستشيره الناس في قضاياهم. بينه وبين طلابه بعد وهيبة. اليوم اختلفت اللغة والأسلوب والهيبة وصار الاثنان على المستوى نفسه. فالتلميذ بات مشاركاً في البحث عن المعلومة ونقلها إلى أستاذه وزملائه الأمر الذي قرّب المسافة بينهما وولّد مشاركة ومساواة.
لكن على الرغم من هذا التفاعل التشاركي واعتماد أنظمة تكنولوجية متقدمة في غالبية المدارس إلّا أن النظام التربوي اللبناني صار قديماً بالياً ولا يزال على حاله تقريباً منذ الانتداب الفرنسي.
"فرنسا غيّرت نظامها" تقول الاختصاصية النفسية التربوية "ولبنان لا يزال يعتمده ذاته فيما حلم كل المعلمين تغيير هذا المنهاج الذي يعتمد على التلقين ومدّ الطالب بالمعلومات ليكون مجرّد متلقّ بدل أن تكون عملية التعلم عملية تشاركية يشعر معها التلميذ بمتعة إيجاد معلومة بذل جهداً للبحث عنها. ما زالت المناهج اللبنانية تعتمد التعليم المرتكز على مفاهيم بعيدة من إدراك الطلاب يحفظونها غيباً فيما التربية الحديثة تقتضي وجود أساليب مختلفة للتعلم والتعليم تأخذ في الاعتبار مستويات الذكاء وأشكاله المختلفة عند الطلاب. لم تعد عبارة "الأول في صفه" نيشان يرفعه الأهل بفخر أمام الجميع بل صار أي تلميذ اليوم بارعاً في مجال ما يتمّ تشجيعه عليه وتوجيهه لتحقيق أفضل قدراته".
بين الماضي والحاضر تطوّرت بنية التعليم وأدواته لكن يبقى الأساتذة الجنود المجهولين الذين يحاولون جاهدين أن يزرعوا العلم بين أجيال تفضّل "الاختصار" في كل شيء، حتى في الاحترام، والجنود المغبونين الذين يعيشون خوفاً دائماً على مصيرهم في بلد ضاعت فيه تعويضاتهم وتقلّصت رواتبهم.
هل تذكرون الـ Penrex والـ Tip ex
القرطاسية لا تزال موجودة؛ قلم الرصاص والمبراة والممحاة الملونة والـ tip ex و "البيكار" وعلبة الجيومتري أدوات لم تتغير كثيراً ولا تزال ضرورة في حقيبة كل تلميذ يختارها ويتباهى بها. إليها أضيفت وسائل تقنية حديثة أتت لتحسّن جودة التعليم. الكتب الإلكترونية حلّت محل الورقية في بعض المدارس. شرح المعلّم تحوّل عرضاً ملوّناً غنياً بالصور يخزّنه على مفتاح USB ويعرضه على شاشة مثبتة في الصف. المستندات التعليمية والبحثية تخزّن في ما يعرف بالـ class room ليراجعها الطلاب متى أرادوا. أما "الأجندة" هاجس الأهل والإدارة الأول فتنشر يومياً على موقع المدرسة الإلكتروني أو ترسل إلى الأهل مباشرة على هواتفهم ليتأكد الطلاب وأهلهم من تفاصيلها. لم تحل الوسائل التكنولوجية محل الوسائل التقليدية بل جاءت لتسندها وتقدّم مساعدة جدية للطلاب ذوي الصعوبات التعليمية كانوا يفتقرون إليها في الماضي. انتهت أيام الصفر في مادة الإملاء عند من يعانون الديسليكسيا ليحل محلها المصحح الآلي على الألواح الذكية.