نبيل يوسف ـ نداء الوطن
في مثل هذه الأيام قبل نصف قرنٍ، شهد لبنان أحداثاً سياسية وأمنية، هيّأت الأجواء المحلية، المتشابكة مع عوامل خارجية، لاندلاع الحرب في لبنان. وانطلاقاً من تنقية الذاكرة عبر معرفة التاريخ، لاستخلاص العبر وتقديم مادة توثيقية تُحصّن الحاضر والمستقبل، نسلّط الضوء على أهم ما حدث في تلك الحقبة.
شركة بروتيين: من يتذكّرها؟
بين شتاء وربيع 1975 قامت الدنيا ولم تقعد بسبب شركة بروتيين، فما هي تلك الشركة التي كانت من حجج اندلاع الحرب؟ تأسّست بموجب مرسوم جمهوري رقم 2456 صدر بتاريخ 17 كانون الأول 1971 عن مجلس الوزراء برئاسة صائب سلام، وكان موضوع الشركة وطبيعة عملها يقعان ضمن صلاحية وزارة الاقتصاد (الوزير صائب جارودي). مؤسّسوها: مراد بارودي وإدوار كرم وعدنان حوراني. رأس مالها 30 مليون ليرة لبنانية: قيمة السهم الواحد 100 ليرة لبنانية. عمل الشركة: ممارسة أعمال الصيد البحري في المياه الإقليمية اللبنانية وعرض البحر، مستخدمة بواخر خاصة للصيد وما يلزم من معدّات حديثة.
الاعتراض على الشركة
يقول الأستاذ جوزف أبو خليل: "علنياً كان الاعتراض على عملها لاعتبار أنها ستحرم الصيادين من أعمالهم على طول الشاطئ اللبناني، أما ما وراء الأكمة فظهر لاحقاً، حيث تبيّن أن قضية شركة بروتيين وصيادي السمك، كانت حجة واهية لإثارة الفوضى، لا سيّما بعد أن حاولت القوى اليسارية استغلال علاقة الرئيس كميل شمعون بشركة بروتيين، ففي سبعينات القرن المنصرم لم تعد هنالك أحلاف غربية تتحجّج بها القوى اليسارية في مواجهة شمعون كما حدث عام 1958، فَلِم لا تكون شركة بروتيين الذريعة لخلق البلبلة في البلاد؟ ولِمَ لا تتحول نسخة منقّحة ومجددة من حلف بغداد، (اجتماعي هذه المرة)، وبصيغة السبعينات؟ لقد كان هذا أفضل سيناريو للقادة اليساريين لتحقيق أهدافهم في ما يعتبرونه المساواة والعدالة الاجتماعية.
في 26 شباط 1975، خرج صيّادو الأسماك في صيدا بمظاهرة ضد الشركة وعلى رأس المتظاهرين نائب صيدا السابق معروف سعد، الذي أصيب يومها برصاصة مجهولة أدّت لاحقاً إلى استشهاده (سنتطرّق تفصيلياً إلى تلك المظاهرة في السطور اللاحقة).
ما كان موقف باقي صيّادي لبنان؟
بحسب جدول نشره الدكتور فريد الخازن في كتابه "تفكك أوصال الدولة اللبنانية"، يتبيّن أنّ مجموع عدد صيّادي الأسماك في لبنان كان عام 1974 قرابة 2900 صياد، أكثرهم في بيروت 1190، ثم طرابلس 540 ، فالبترون 395، جونيه 390، صيدا 240، ومن بعدها جبيل 237 صياداً. وكانت باقي تعاونيات الصيادين دخلت بمفاوضات مع الشركة ووصلت إلى مراحل متقدّمة جداً خاصة مع تعاونية بيروت الكبرى بين التعاونيات الأربع.
وقد خلصت المفاوضات إلى التالي:
- شراء الشركة المعروض من الأسماك من الصيادين بالسعر الرائج.
- توظيف من يرغب من الصيادين اللبنانيين للعمل في الشركة، ولهم الأولوية على العمال الأجانب.
- تقديم مبلغ يتراوح ما بين 50 إلى 70 ألف ليرة لبنانية سنوياً كمساعدة لكل من تعاونيات الصيادين الأربع في لبنان.
- فتح باب شراء الأسهم لمن يرغب من اللبنانيين.
أما عن علاقة الرئيس شمعون بالشركة، حيث "ضَجّت الدني" في تلك الفترة، وسيقت الاتهامات نحوه، فتبيّن أنه لا يملك سوى نسبة تتراوح بين 0.50% و1% من أسهمها فقط، أي أن مساهمته فيها شبه رمزية.
ماذا لو أكملت الشركة عملها؟
بحسب الدكتور فريد الخازن: "كانت الشركة أنشأت علاقة تجارية مع شركة إنغرا - زغرب اليوغسلافية المتخصّصة في مجال الصيد البحري، على أن تقدم الشركة اليوغسلافية للشركة اللبنانية المساعدة التقنية التي تحتاجها، وتساهم في تمويلها بمبلغ 50 مليون دولار أميركي على مدى 10 سنوات مع فترة سماح مدتها سنتان.
كان نطاق عمل بروتيين على بعد أقله كيلومتران من الشاطئ اللبناني، حيث لا يصل الصياد بمراكبه الصغيرة، وكان وجود الشركة مع الخبرات التي تملكها والتي ستضعها في تصرّف البحارة اللبنانيين، سيشكل حافزاً مهماً لهم لتنشيط عملهم".
يتابع: "من شروط الترخيص للشركة الامتناع عن الصيد في المجال الذي يصطاد فيه الصيادون اللبنانيون مع أفضلية العمل للصيادين اللبنانيين في الشركة، وإلزام الأخيرة بشراء إنتاج السمك كافة، أو الكمية التي يرغبون في بيعها، وفق أسعار تحدّدها وزارة الاقتصاد.
لكن بعد أحداث صيدا، فنّد أعضاء مجلس إدارة الشركة تفاصيل مفاوضاتهم مع الصيادين ومما أوردوه أنه بعد اشتداد الخلاف حول عمل الشركة، وظهر واضحاً استغلال هذه القضية، جرى التواصل مع معروف سعد، الذي كونه في طليعة المدافعين عن حقوق الصيادين، كان يقف ضد محاولات استغلال المسألة، وأدّى بالفعل دوراً مهمّاً وبنّاءً في تضييق الخلاف بين الشركة والصيادين، وكان هدف المفاوضات إدخال سعد عضواً في مجلس إدارة الشركة، واعتبر المفاوضون أن مشاركته في المظاهرة ستشكّل ضماناً لعدم استغلال المسألة لأغراض سياسية.
لهذا شكّل اغتياله يومها صدمة كبيرة: فهل كان لتلك المفاوضات أي دور في الاغتيال؟
صيدا الأحد 26 شباط 1975
احتجاجاً على الترخيص لشركة بروتيين خرج حوالى 100 متظاهر في طقس ماطر، بمشاركة نائبي صيدا آنذاك نزيه البزري ونائبها السابق معروف سعد. وفيما المتظاهرون يقتربون من بلدية صيدا قبل تفرقهم، سُمع دوي انفجار أصابع ديناميت وبضع رصاصات أطلقت بعيداً من المظاهرة. وإذ صُدم الجميع عندما شاهدوا معروف سعد يسقط أرضاً بعد إصابته برصاصة، فنقل على الفور إلى مستشفى الجامعة الأميركية، حيث فارق الحياة بعد أيام.
من اغتال معروف سعد؟
ستبقى تلك الرصاصة من ألغاز الحرب اللبنانية، ولكن يمكننا ربط بعض المعلومات: أُصيب معروف سعد في أسفل ظهره وليس في صدره المواجه لقوى الأمن الداخلي أو الدرك، أي من أطلق الرصاص كان من بين المتظاهرين، وما يؤكد هذه الفرضية هو أن الرصاصة أُطلقت من مسافة قريبة جداً، فهل استغل مطلق الرصاصة البلبلة التي أحدثتها أصابع الديناميت ليقوم بفعلته؟
انطلقت الاتهامات محمّلةً الجيش المسؤولية، وأن الرصاصة التي أصابت سعد كانت من بندقية (M16) التي يستعملها الجيش والقوى الأمنية.
ردّاً على تلك الاتهامات، كلّفت قيادة الجيش الرائد صادق رعد الخبير في علم القذائف وضع تقرير فني بالحادث، فأخضع الرصاصة التي استخرجت من جسد معروف سعد لتحليل مخبري مع 12طلقة من 12بندقية (M16) الأميركية الصنع، كانت مع عسكريي مخفر صيدا الذين كانوا مقابل التظاهرة عندما أصيب سعد. وبعد إجراء مقارنة للبصمات المعدنية، تبيّن أنّ الرصاصة التي أصابته ليست من الرصاص المستخدم في أسلحة الجيش اللبناني. تجدر الإشارة إلى أنّ الرصاصة استخرجت من جسد معروف سعد بحضور 10 أطباء مدنيين وعسكريين.
قصة الحلاق الصيداوي
يروي العقيد جول البستاني رئيس الشعبة الثانية (مخابرات الجيش) وقتها، أنه التقى مصطفى سعد بعد استشهاد والده، وأطلعه على تسجيل فيديو فيه تسجيل لحلاق صيداوي كان قصد الشعبة الثانية بعد حادثة إطلاق النار وأخبر الضابط المناوب أنه السبت 25 شباط عشية المظاهرة، قصده في محله شخص غريب لحلاقة شعره، يحمل بندقية، وعندما سأله الحلّاق عن بندقيته ردّ: "ستسمع أخبارها قريباً".
يضيف البستاني: "ذاك الحلاق أكد أنه شاهد على التلفزيون الشاب في المظاهرة، لذلك سارع لإخبار الشعبة الثانية ما لديه من معلومات، ولدى سؤاله، أجاب أن لهجة ذاك الشاب كانت غريبة وليست صيداوية.
وبعد مشاهدة الفيديو، أبلغ مصطفى سعد العقيد بستاني أنه يعرف الحلاق، وبعد أيام قُتل الحلاق في ظروف غامضة، ليعود ويتهم مصطفى سعد الجيش اللبناني باغتيال والده بتغطية من السلطة السياسية.
القاضي طارق زيادة
رغم مرور عشرات الأعوام على حادثة صيدا، بقي القاضي طارق زيادة الذي عيّن محققاً عدليّاً في اغتيال معروف سعد يلتزم الصمت، ولم تنفع كل المحاولات معه لإخبار ما يعرف عن عملية الاغتيال، وكل ما كان يقوله: لو لم تندلع الحرب كان سيتم اغتيال أكثر من قيادي لبناني، كان الهدف اندلاع الحرب. ويبقى السؤال المطروح بعد 50 سنة: من قتل معروف سعد؟ وما جرى يومها في صيدا؟ هل سيأتي يوم وتكشف كل الحقيقة؟
استشهاد الملازم الياس الخازن
على أثر إصابة النائب معروف سعد برصاصة، تعرضت دوريات وجنود الجيش اللبناني لسلسلة اعتداءات من قبل مسلحين صيداويين وفلسطينيين، ما أدى لاستشهاد 6 جنود و 9 مدنيين صودف مرورهم في شوارع صيدا، إضافة إلى العديد من الجرحى.
من بين الذين أصيبوا يومها في صيدا، الملازم في قوى الأمن الداخلي الياس فضل الخازن ابن بلدة كفردبيان، الذي نقل على الفور إلى مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، وفيما كان الأطباء يستعدون لنقله إلى الطائرة التي ستقله إلى فرنسا للعلاج صباح 8 آذار فارق الحياة. والمفارقة، أن نادي بلدته الرياضي، كان ينظّم نهار إصابته، حملة تبرعات لصالح بلدة كفرشوبا التي تعرّضت قبل أيام لغارات إسرائيلية، استهدفت القواعد الفلسطينية فيها وألحقت أضراراً جسيمة في المنازل والأملاك، والمفارقة أيضاً أن شقيقات الضابط الشهيد كنّ يجلنَ مع شباب وصبايا النادي على منازل كفردبيان، جمعاً للتبرعات لحظة وصول الخبر.