عبد المنعم علي عيسى ـ الأخبار
كان شهر أيلول من عام 1948 مفصلياً في تحديد الخيارات الكبرى بالنسبة إلى ديفيد بن غوريون، الذي سبق له أن أعلن قبل أشهر قليلة عن ولادة «كيانه». وفي ذلك الشهر، سيكتب في مذكّراته ما يفيد بأنه «مطمئن إلى مستقبل إسرائيل لأسباب عدة أبرزها الضعف والانحلال السائدان في المحيط»، وكذا العلاقة الرحمية القائمة مع الغرب الذي «يثق بأي شيء تقوم أو تقول به إسرائيل». وبعد أيام سيكتب أن «خيار امتلاك إسرائيل لسلاح نووي هو خيار مصيري لا بديل عنه»، وهو يعلّل ذلك بأن «الحاجة إلى هذا السلاح تنبع من التهديد الذي يسبّبه باستمرار محيط شديد العداء، وأيضاً من حقيقة يصعب أن تتبدّل، ومفادها افتقاد إسرائيل إلى العمق الاستراتيجي».
يذكر الراحل محمد حسنين هيكل، في سلسلة مقالات نشرها في جريدة «السفير» صيف عام 2000 بعنوان «سياحة صيف في الوثائق الإسرائيلية»، أن ثمّة تيارين برزا في إسرائيل عشية احتدام السجال حول مسألة امتلاك الأخيرة للسلاح النووي، الأول تزعّمه شمعون بيريس ومختصره أن «الوقت لا ينتظر»، بمعنى أن إسرائيل لا تمتلك ترف الوقت في انتظار تصنيع «قنبلة» قد يستغرق تصنيعها عقداً من الزمن أو يزيد مهما بلغ الإسناد الغربي في حلّ الثغرات، والثاني كان بزعامة إرنست بيرغمان، مستشار بن غوريون، ومفاده أن الحصول على السلاح النووي جاهزاً، سيحيله بمرور الزمن، إلى عبء بدلاً من أن يكون عامل قوة، نتيجة الثغرات التي ستنجم حتماً عن التخزين، فضلاً عن أن عدم امتلاك التكنولوجيا النووية سوف يحيل ذلك السلاح، بمرور الوقت أيضاً، إلى سلاح بدائي غير قادر على مواكبة نظائره في العالم. وفي النهاية، سينتصر تيار بيرغمان الذي سيكتب في مذكّراته: «اليوم بتُّ على يقين بأن إسرائيل ستظل على الدوام جزءاً من النسيج الغربي الذي وُلدت فيه».
بدأ المشروع النووي الإسرائيلي مشواره عام 1957 بخبرات وتمويل فرنسي، ومفاعل «ديمونا» الذي بُني في صحراء النقب دخل الخدمة الفعلية عام 1963. ومذّاك، كان الغموض هو الصفة الملازمة لذلك المشروع. فلا تل أبيب كانت في وارد التوقيع على اتفاقية «الحد من انتشار السلاح النووي» خشية أن يعرّضها هذا لوضع منشآتها تحت رقابة «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، ولا هي كانت قادرة على إعلان نفسها «دولة نووية» بسبب الأكلاف السياسية الباهظة التي يمكن لها أن تنشأ من هكذا إعلان.
وعليه راحت تقارير غربية، كان بعضها مقصوداً، تعمل على تسريب معلومات عن القدرات النووية الإسرائيلية. وفي سياقها، قال البعض إن إسرائيل كانت تمتلك عشية حرب أكتوبر 1973 ما بين 40 و60 رأساً نووياً، في حين ذكر آخرها، في صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية في أيلول 2022، أن مخزون إسرائيل من الرؤوس النووية الآن هو بين 80 و300 رأس نووي. والرقم الأخير يفوق ما تمتلكه جمهورية الصين الشعبية في التاريخ المذكور أيضاً.
ويذكر تقرير لصحيفة «ناشيونال إنترست» المتخصّصة أن «غولدا مائير (رئيسة الوزراء الإسرائيلية إبان حرب أكتوبر 1973) وضعت 8 طائرات من نوع F4، محمّلة بقنابل نووية، على أهبة الاستعداد، لإسقاط تلك القنابل على القاهرة ودمشق، إذا ما استطاعت الجيوش العربية دخول الأراضي الإسرائيلية». ويضيف التقرير أن «هذا الأمر جرى تسريبه عمداً إلى كل من واشنطن ودمشق والقاهرة والرياض». ويطرح التقرير السابق العديد من الفرضيات التي من بينها أن تل أبيب عمدت إلى ابتزاز واشنطن عبر التهديد باللجوء إلى الخيار النووي، لتأمين احتياجاتها من الأسلحة التقليدية الحديثة التي تضمن لها إلغاء ذلك الخيار من التداول. ومن بين هذه الفرضيات، إيصال رسالة إلى العرب بأن إسرائيل لا تختلف كثيراً عن الولايات المتحدة التي استخدمت السلاح النووي للمرة الأولى في التاريخ ضد اليابان صيف عام 1945، ولم يكن هناك من مبرّر له سوى إرهاب العالم، لأن اليابان كانت على وشك الاستسلام، الأمر الذي رصدته البرقيات المرسلة إلى رئاسة الأركان السوفياتية في حينها، ومن دون أدنى شك كانت الولايات المتحدة قد علمت بها، بعدما استطاعت الاستخبارات الأميركية فك الشيفرة اليابانية، قبل التاريخ المذكور بثلاثة أشهر على الأقل.
وفي 5 تشرين الثاني الماضي، أعلن وزير التراث في الحكومة الإسرائيلية، عميحاي إلياهو، أن «إلقاء قنبلة نووية على غزة حلّ ممكن»، مضيفاً أن «قطاع غزة يجب أن لا يبقى على وجه الأرض»، ثم عاود تلك الدعوة يوم 24 حزيران الماضي. وعلى رغم أن رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، كان قد وصف الأخير بأنه «منفصل عن الواقع»، إلا أن المؤكد هو أن كلام إلياهو كان أقرب إلى ما يدور في مخيلة العديد ممن يرابطون في غرف إدارة العمليات لاعتبارات عدة.
هذه المرة، لا يمكن القول إن تل أبيب، بإيحاءاتها النووية، تسعى إلى ابتزاز واشنطن من أجل كسب المزيد من الأسلحة الذكية والمتفوقة. فمخازن الأخيرة قدّمت على مدار الأشهر التسعة المنصرمة فخر ما تختزنه. والراجح هنا أن استخدام سلاح نووي لحسم الحرب بات أمراً متداولاً الآن، أقله على مستويات «ما تحت» صنع القرار. لننظر إلى أفيغدور ليبرمان، عضو الكنيست ورئيس حزب «إسرائيل بيتنا»، وهو يدعو، في 3 تموز الجاري، إلى «إنهاء سياسة الغموض بشأن إمكاناتنا غير التقليدية». وعندما التبس الأمر على المذيع الذي كان يحاوره، طلب إليه تكرار ما سمعه، ليرد ليبرمان موضحاً: «لا يوجد لدينا وقت للسلاح التقليدي».
تنبع إمكانية ذهاب إسرائيل إلى استخدام السلاح النووي من اعتبارين اثنين، أولهما هو قوة الردع التقليدية المتآكلة بدرجة غير مسبوقة، وثانيهما أن هذا الفعل قد يؤدي إلى إرهاب المنطقة برمتها بعدما عبّرت «حلقات النار» المحيطة عن استعدادها لتوسعة رقعة الحرب، تماماً كما كان غرض واشنطن من قنبلتين نوويتين أولاهما حطّت في هيروشيما وتلتها أخرى حطت في ناغازاكي، ولربما ترى تل أبيب أنها «بضعة» من هذه الأخيرة، التي لم يكن هناك من هو قادر على وضعها داخل دائرة العقاب.