(خليل الجميل ـ الأخبار)
ما يربط شريط القرى السبع بمزارع شبعا، إضافةً إلى الجوار الجغرافي، مظلومية تاريخية أرساها الانتداب. حالتان متشابهتان من ناحية الوقائع ومتناقضتان لجهة المطالبة بالحقوق السليبة.
مزارع شبعا
في 31 آب عام 1920، أصدر المفوض السامي الفرنسي الجنرال هنري غورو القرار الرقم 318 القاضي بإنشاء دولة لبنان الكبير الذي ضَمّ قضاء حاصبيا بالكامل، ولم يقتطع منه أي جزء، إسوةً بالاقتطاع من «سنجق طرابلس» مثلاً، وكانت مزارع شبعا تاريخياً ضمن القضاء المذكور.
وعندما رسّم الجيش الفرنسي الخرائط العسكريّة لحدود الدولة الجديدة مع سوريا، ارتكب - عن قصد أو من دونه - خطأً تقنياً جسيماً باعتماد طريقة ترسيم عسكريّة تتّبع تتالي نقاط خطوط القنن (رؤوس) وقمم الجبال حدوداً دوليّة بدلاً من حدود الأقضية، فثُبِّتَت بلدة شبعا اللبنانيّة داخل حدود لبنان الكبير، بينما أصبحت مزارعها خارجه، داخل حدود سوريا التي كانت خاضعة أيضاً للانتداب الفرنسي. هكذا، «بشحطة» قلم الرسّام الانتدابي، باتت مساكن الشبعاويين في دولة، ومزارعهم ودساكرهم ومراعي مواشيهم ومصادر رزقهم وحتى أوقافهم في دولةٍ أخرى.
بالطبع تنبّه الأهالي فوراً لما حدث، وحاولوا تصحيح الخطأ مع دولة الانتداب، وجرت محاولات عدة أنتجت خرائط وخطائط واقتراحات تعديل على مدى حقبة الانتداب، وعند كلّ اقتراحٍ جديد، كانت مساحة المزارع تتقلّص بحكم الأمر الواقع، فتضاءلت حقوق الشبعاويين من تخوم مجدل شمس والقنيطرة ووادي المَنجَرَة إلى مجرى وادي العسل.
سلطات الانتداب التي اعترفت بالخطأ، وعدت الأهالي بالتصحيح عند وصول لجان تثبيت الحدود بين لبنان وسوريا إلى هذه المنطقة، بعدما كانت لجنة «دورافور» المُكلّفة بذلك، قد باشرت أعمالها من الحدود الشماليّة للبنان الكبير مع سوريا، ولكن انتهى الانتداب قبل أن تَبلُغ أعمال التثبيت منطقة شبعا في أقصى الجنوب. تلك اللجنة، مع غيرها من اللجان الحدوديّة التي شكّلها الانتداب، أورثت لبنان وسوريا مشكلات حدودية برية لا تزال عالقة منذ أكثر من مئة عام ونيّف.
بعد الاستقلال عن فرنسا توصّل لبنان وسوريا إلى حل عقاري لمزارع شبعا عام 1946، عبر خطيطة عقاريّة موقَّعة من الجمهوريتين ممثلتين بالقاضيين العقاريين، اللبناني رفيق الغزاوي والسوري عدنان الخطيب، ثبّتت حدود مزارع شبعا على مجرى وادي العسل وحدود قرية «مغر شبعا» السوريّة.
وافق لبنان على الحدّ الأدنى من حقوقه من أجل استرجاع ما أمكن من أراضي المزارع، لكن الحدود الدوليّة لم تُعدَّل، وحصلت بعد ذلك أحداث جسام في تلك المنطقة الواقعة على ملتقى فالق صراع تاريخي توراتي عميق، إذ احتلّت إسرائيل الجولان السوري ومزارع شبعا عام 1967وهجّرت سكان المزارع إلى بلدة شبعا.
عندما انسحبت إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000، لم تنسحب من مزارع شبعا وتحصّنت خلف الخط الأزرق، الذي اعتبر واضعوه أن المزارع سوريّة، في محاباةٍ فاضحة لإسرائيل، رغم أن الدولة اللبنانية أودعت الأمم المتحدة الوثائق والمستندات كافة التي تُثبت لبنانيتها.
ورغم مرور مئة عام، لا يزال لبنان الرسمي والشعبي وأهالي شبعا مصرّين على استرجاع المزارع التي باتت اليوم قضية وطنية جامعة غير قابلة للمناقشة والتسويات.
القرى السبع
على قاب قوسين من مزارع شبعا قصّةٌ مشابهة طمرها النسيان الرسمي والشعبي، وهي قضيّة سبع قرى لبنانيّة تخلّى عنها الانتداب، أسوةً بالمزارع، ولكن علانيّةً ومن دون مواربة أو ادعاء الخطأ، بل بموجب صفقة بيع وتبادل بين فرنسي يلتزم تجفيف سهل الحولة ويهودي يملك المال، فهاجر بعض أهلها وهُجِّر الباقون أو قُتلوا، وتغيَّرت معالم القرى وأسماؤها وتشتَّتَ سكانها في نواحي جبل عامل والداخل اللبناني، وعانوا الظلم والتجاهل، وكان أقصى ما يبغون اعترافاً بهويتهم اللبنانيّة.
فبعد إصداره قرار إنشاء لبنان الكبير بعدّة أشهر، أصدر المفوض السامي الفرنسي قراراً بإحصاء منطقة لبنان الكبير تحت الرقم 763، تاريخ 9 آذار 1921. وبناءً على معاملات هذا الإحصاء، أُحصي ضمن لبنان الكبير سكان القرى السبع التي تتدرّج من الشرق نحو الغرب: إبل القمح قرب نبع الوزاني، هونين، النبي يوشع، قَدَس، مالكيّة الجبل، صلحا وطيربيخا. ثم نصَّ قرار المفوض السامي الفرنسي الرقم 1307، الصادر في 10 آذار 1922، على أنه «يُعتبر لبنانياً كل من كان قد قُيّدَ بهذه الصفة في سجلات الإحصاء».
أعطت سلطات الانتداب سكان القرى السبع هويّات لبنانيّة (دولة لبنان الكبير)، إسوةً بسكان بقية قرى جبل عامل وبلداته. وبعد حوالى ثلاث سنوات، ونزولاً عند رغبة الوكالة اليهوديّة، سُلِخت هذه القرى عن لبنان وضُمَّت إلى فلسطين عقب «الاتفاق بين حكومة صاحب الجلالة والحكومة الفرنسية المتعلّق بخطّ الحدود بين سوريا وفلسطين من البحر المتوسط إلى الحمّة»، أو ما بات يُعرَف باتفاقيّة «بوليه - نيوكمب» التي رسَّمَت الحدود البريّة بين الانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا من جهة، والانتداب البريطاني على فلسطين من جهةٍ أخرى، علماً أنه لدى ترسيم هذه الحدود، لم يكن للطرفين اللبناني والفلسطيني أي رأي أو وجود.
أربكت هذه الحدود الجديدة سكان القرى السبع وسلختهم عن انتمائهم الطبيعي والجغرافي والأسري، ففضّل بعضهم النزوح نحو جبل عامل والالتحاق بالحدود الجديدة للبنان الكبير، فيما آثرت غالبيتهم البقاء في قراهم وأراضيهم، إلى أن هاجمتهم الفرق الصهيونيّة ضمن ما عُرِف بعمليتي «يفتاح» و«حيرام» عام 1948، وارتكبت بحقهم المجازر والتطهير العرقي، ففرَّ من نجوا مذعورين إلى داخل الحدود اللبنانيّة، والتجأت، على سبيل المثال، أسَر من قرية إبل القمح المختلطة بين شيعة وكاثوليك إلى بلدة دير ميماس، ومنهم عائلات كسرواني، عبدو، حداد، حرفوش وغيرها.
بعد اندلاع الحرب على غزّة والمعارك القائمة في جنوب لبنان، عادت هذه القرى إلى الضوء، تارةً بأسمائها الصحيحة وطوراً بأسمائها العبريّة المزوَّرة، ما يدلّ على ارتباك إعلامي لبناني فاضح، أضفى على الظلم الذي لحق بهذه القرى على مدى تاريخها، ظلماً إعلامياً وخجلاً رسمياً. إذ إن هذه القرى ليست على الخريطة السياسيّة للبنان كمزارع شبعا، رغم أن الحالتين متشابهتان في التاريخ والجغرافيا، بل إن شريط القرى السبع الذي سُلِخَ عن لبنان أكبر من مزارع شبعا مساحةً وسكاناً، وتَبلُغ مساحته حوالى 74 كيلومتراً مربعاً، في مقابل 42 كيلومتراً مساحة مزارع شبعا التي تطالب الدولة اللبنانيّة بها.
تعرِف غالبيّة اللبنانيين قضيّة مزارع شبعا عن ظهر قلب، بينما قلّة من سمعوا بالقرى السبع التي قطع لبنان الرسمي معها حبل سرّة التاريخ والجغرافيا.