شربل صفير ـ نداء الوطن
يشتعل الشارع اللبناني كل يوم على صوت محرّكات الدراجات النارية التي تجوب المدن والبلدات كأنها خارج الزمن والقانون. تتسابق بين السيارات، تتحدى الإشارات، وتخترق الأزقة والطرقات بسرعةٍ تحبس الأنفاس. ما بدأ وسيلة تنقّل للفقراء والمستعجلين، تحوّل إلى مشهد يومي للفوضى والخطر، وإلى رمز لعجز الدولة عن فرض النظام وضبط الشارع.
من بيروت المزدحمة إلى طرابلس الصاخبة، ومن صيدا إلى البقاع وجبال لبنان، تتكرر الحكاية ذاتها: between بين السيارات، دراجات بلا ضوابط، قانون غائب، ودماء تسيل على الإسفلت وفي بعض الأحيان تصبح الطريق ساحة مواجهة مفتوحة بين الحياة والموت.
فوضى بلا ضوابط
في منتصف النهار، تتقاطع أصوات المحركات مع أبواق السيارات في زحمة طريق المطار. سائقون بلا خوذات، مراهقون على دراجات صغيرة، وشباب يندفعون بسرعات جنونية متحدّين إشارات السير. البعض ينقل طلبات الطعام، والبعض الآخر ينقل أسرار الأحزاب، فيما يتخذ آخرون الدراجة وسيلة للسرقة أو للهرب بعد تنفيذ جريمة.
تُظهر الإحصاءات الحديثة أن حوادث الدراجات النارية باتت تحتل المراتب الأولى في غرف الطوارئ. يروي الدكتور رامي خوري، جرّاح الطوارئ في أحد المستشفيات الكبرى في بيروت لـ "نداء الوطن": "المشهد يتكرّر بشكل شبه يومي. يدخل إلينا شباب في مقتبل العمر، بعضهم بلا نبض، آخرون بإصابات دماغية أو كسور مروّعة. السبب واحد في معظم الحالات: السرعة وغياب الخوذة".
ويضيف الطبيب بصوت يختلط فيه الحزن بالغضب: "حوالى سبعة من كل عشرة مصابين بدراجات نارية لا يملكون أي تغطية تأمينية، ما يعني أن كلفة علاجهم تقع على المستشفيات أو تُترك لعائلات مفلسة أصلًا. هذا عبء مضاعف على قطاع صحي يترنح تحت ضغط الأزمة الاقتصادية".
حجم المشكلة
في حديث لـ "نداء الوطن"، كشف الباحث في "الدولية للمعلومات" محمد شمس الدين أن عدد الدراجات النارية المسجّلة في لبنان يبلغ نحو 370 ألف دراجة، مرجّحًا وجود عدد مماثل من الدراجات غير المسجّلة، ما يعكس، بحسب قوله، حجم الفوضى المستشرية على الطرقات، فالدراجات باتت تحتل الأرصفة والشوارع، وتتقاطع مع السيارات والمارة، وتُستخدم أحيانًا في عمليات النشل والسرقة والتعدّي والاستقواء، ما يجعلها خطرًا يوميًا على حياة الناس.
وأضاف شمس الدين أنه حتى نهاية شهر آب من العام الحالي، تم استيراد نحو 18 ألف دراجة نارية جديدة، في مؤشر واضح إلى التوسّع المستمر في استخدامها، رغم غياب التنظيم والرقابة الكافية. كما أشار إلى عدم توافر أرقام دقيقة حول عدد الحوادث المرتبطة بالدراجات النارية.
ولفت إلى أن استيراد الدراجات النارية خلال العامين الماضيين بلغ نحو 50 ألف دراجة سنويًا، ما يعكس زيادة ملحوظة في الاعتماد عليها كوسيلة نقل أساسية، خصوصًا في ظل ارتفاع أسعار البنزين وانهيار قطاع النقل العام.
دراجات السياسة والشارع الحزبي
ليست الدراجات النارية في لبنان مجرّد وسيلة نقل، بل أداة حضور ونفوذ في بعض المناطق. ففي الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث النفوذ الأمني لـ "حزب الله" واضح، تجوب مجموعات من الدراجات في مواكب صغيرة تحمل أحيانًا أعلامًا حزبية أو ترافق تحركات ميدانية.
يصف أحد سكان المنطقة لـ "نداء الوطن"، فضل عدم الكشف عن اسمه لأسباب أمنية، المشهد قائلًا: "في الليل تسمع أصوات المحركات تتقاطع من كل صوب. بعضهم شبّان عاديون، لكن هناك مجموعات معروفة بأنها تابعة لأنصار "الحزب". يمرّون بسرعة، لا أحد يوقفهم، لا شرطة سير ولا حواجز. نشعر أحيانًا أن الشارع ملكهم".
شهادات من قلب الشارع
الأرقام لا تروي سوى جزء من الحقيقة، أما البقية فتسكن في وجوه الناجين وعائلات الضحايا. فراس، 19 عامًا، نجا من حادث مروّع في بيروت بفضل خوذته الواقية، يروي تفاصيل اللحظات التي كادت أن تنهي حياته: "كنت أقود دراجتي بسرعة عادية في شارع مزدحم، وفجأة فقد أحد السائقين السيطرة على سيارته واصطدم بي. شعرت أن الوقت توقف للحظة… كل شيء حولي كان ضبابيًا، ولم أكن أعرف إن كنت سأبقى حيًا".
يواصل فراس: "لو لم أرتد خوذتي، لما كنت أتحدث إليكم الآن… شعرت بأن خوذتي أنقذت حياتي حرفيًا. بعد الحادث، تغيّرت نظرتي تمامًا للطريق. لم أعد أرى الدراجات مجرد وسيلة للتنقل، بل أداة يمكن أن تكون قاتلة إذا أهملنا السلامة".
فراس لم يكتفِ بتغيير سلوكه الشخصي، بل أصبح ناشطًا ضمن محيطه للتوعية بالسلامة المرورية: "أحاول دائمًا أن أذكّر أصدقائي وأقاربي بارتداء الخوذة، بالالتزام بالسرعة وبقواعد السير. أؤمن أن كل شخص يمكن أن يكوّن فرقًا في حياة الآخرين، ولو بكلمة نصيحة صغيرة".
إلى جانب شهادات الناجين، هناك قصص أليمة لعائلات فقدت أحباءها بسبب الفوضى المرورية. تحدثت أم لابن فقدته سابقًا، رفضت الكشف عن اسمها، عن خوفها الدائم على أبنائها وعن الألم المستمر في حياتها اليومية: "كل يوم أخاف على أولادي. الطرقات تحوّلت إلى ساحة حرب، والدراجات لا تعرف حدودًا. لقد فقدنا ابنًا قبل سنتين في حادث، وما زلت أرى صورته في كل زاوية من المنزل… كل خطوة على الطريق الآن مليئة بالقلق والخوف".
وأضافت: "كل مرة أسمع هدير الدراجة في الشارع، تعود بي الذكريات. أفكر، ماذا لو كان هو؟ ماذا لو كان أحد أبنائي؟ أشعر بالعجز لأننا كعائلات، مهما حاولنا، لا نستطيع حماية أولادنا من الفوضى القائمة على الطرقات. المسؤولية ليست فقط على السائقين، بل على كل من يسمح لهذا الوضع أن يستمر بلا رقابة".
دراجات Toters: نموذج التنظيم الممكن
وسط هذا المشهد الفوضوي، تبرز تجربة شركات التوصيل المنظّمة كاستثناء إيجابي لافت في قطاع الدراجات النارية.
يروي أحد السائقين العاملين فيها لـ "نداء الوطن": "Toters تعاملنا بمسؤولية. من دون خوذة ما منشتغل، وكل مخالفة عليها إنذار. الشغل متعب، بس بأمان، وهيدا بيفرق".
ويضيف: "الشركة تعتمد على تدريب إلزامي لكل جديد، يعلم كيفية القيادة الآمنة، الالتزام بإشارات السير، وحماية حياة السائقين والمواطنين على حد سواء. كل مخالفة تُسجّل، وكل تجاوز للقواعد يترتب عليه إنذار أو توقيف موقت. هذا يعطينا شعورًا بالمسؤولية ويحوّل عملنا من مجرد توصيل إلى مهنة تحترم القانون والحياة".
ارتفاع مقلق لحوادث السير
تشير البيانات الرسمية إلى أن حوادث السير في لبنان تواصل رسم صورة مقلقة للواقع المروري. فحتى نهاية أيار 2025، سجّلت الأجهزة الأمنية نحو 876 حادثًا مروريًا، أسفرت عن 162 حالة وفاة وأكثر من 1,034 إصابة، بحسب قوى الأمن الداخلي.
وفي سياق أوسع، أفادت التقارير الصادرة عن الصليب الأحمر اللبناني بأن عدد المصابين نتيجة حوادث السير تجاوز 7,447 شخصًا خلال الأشهر السبعة الأولى من 2025، ما يضع البلاد على مقربة من تحطيم الرقم السنوي للإصابات في 2024. وبينما لا تتوفر إحصاءات دقيقة لحوادث الدراجات النارية وحدها، تشير الدراسات إلى أن سائقي الدراجات يشكلون نسبة مرتفعة من الضحايا، خصوصًا مع ضعف الالتزام بارتداء الخوذ وعدم التسجيل الرسمي.
اليازا والتحذير من الفوضى المستمرة
بين شهادات الناجين ودموع الأمهات، يعلو صوت الجمعيات المدنية محاولًا كبح نزيف الطرقات في لبنان.
جو دكاش، نائب رئيس جمعية "اليازا"، يضع الإصبع على الجرح محذرًا من تفاقم الفوضى المرورية الناتجة عن الانتشار العشوائي للدراجات النارية، مؤكدًا لـ "نداء الوطن" أن الوضع بلغ مرحلة تهدّد سلامة المواطنين وحياتهم اليومية.
ودعا دكاش إلى ضرورة تطبيق قانون السير بحزم وفعالية للحد من الحوادث والوفيات، مشيرًا إلى أن الدراجات النارية تحوّلت إلى وسيلة تنقل رئيسية في المدن والقرى اللبنانية، فيما نسبة ضئيلة جدًا من السائقين تلتزم بقواعد المرور، ما يجعلها من أكثر وسائل النقل خطورة، خصوصًا مع ارتفاع وتيرة الحوادث خلال فصل الصيف وازدحام الطرقات.
وأوضح أن الجمعية تركّز على تعزيز ثقافة السلامة المرورية لدى السائقين، وتشمل حملاتها التوعوية أهمية الصيانة الدورية للدراجات، وارتداء الخوذة الواقية وكامل عتاد الحماية، إضافة إلى تخفيف السرعة وتجنب المجازفات، ولا سيما على الطرقات الجبلية. كما شدّد على ضرورة الامتناع عن القيادة تحت تأثير الكحول أو التعب، والالتزام بإشارات المرور، وتجنب القيادة عكس السير.
وأشار دكاش إلى أن قوى الأمن الداخلي وشرطة البلديات مدعوون إلى تشديد الرقابة وتطبيق القانون بصرامة، خصوصًا في مواجهة المخالفات الخطيرة التي تهدد الأرواح.
دروس مستفادة من تجارب دولية
تُظهر تجارب دولية أن التنظيم المروري الفعّال يقلّل بشكل كبير حوادث الدراجات النارية.
في تركيا، أدت القوانين الصارمة وفرض الغرامات إلى خفض الحوادث بنسبة 40%.
في تايلاند، ساهمت التراخيص الإلزامية وحملات التوعية في تقليل الإصابات بين الشباب.
وفي إيطاليا، جعلت الرقابة الصارمة والقيود على السرعة الطرق أكثر أمانًا.
ويؤكد الخبراء في لبنان أن تطبيق قوانين واضحة، وإنفاذها بصرامة، مع حملات توعية مستمرة، هو الطريق نحو طرق أكثر أمانًا للجميع.