القى رئيس الحكومة نواف سلام كلمة خلال زيارته بلدية صيدا، قال فيها:"يسرني أن أكون اليوم بينكم في صيدا، هذه المدينة العزيزة التي تمثل في تاريخ لبنان وحاضره رمزا للتنوع والكرم والعطاء، وعنوانا للالتزام الوطني والإنساني. كما ويطيب لي أن أعود اليوم إلى مدينة لها مكانة خاصة في قلبي، مدينة كان ينبغي أن أزورها منذ وقت أطول، لكن أحداث طارئة حالت دون ذلك. إلا أن صيدا لم تغب عني يوما، فهي بالنسبة لي ليست مجرد مدينة، بل فصل من فصول لبنان، ومعنى من معانيه. فعندما نذكر صيدا، نذكر المدينة التي أعطت لبنان من تاريخها وروحها، وقدمت للوطن رجالا ونساء حملوا همومه وأحلامه من أقصاه إلى أقصاه. من رياض الصلح وعادل عسيران اللذين خطا مع الاستقلال أولى صفحات الدولة الحديثة، ومعروف سعد، أبو الفقراء، الذي جسد نضال الناس من أجل العدالة الاجتماعية، والدكتور نزيه البزري، الطبيب الإنساني الصامد زمن الاحتلال، الى رفيق الحريري، رجل البناء والاعمار، الذي أعاد للبنان مكانته والى اللبنانيين أحلامهم. هؤلاء وغيرهم من أبناء صيدا الأوفياء، تركوا في الوجدان اللبناني أثرا خالدا عنوانه الإخلاص للوطن والناس".
أضاف: "صيدا أيضا مدينة الرموز الروحية والإنسانية، من العلامة الشيخ عمر الحلاق، ومفتي الاعتدال الشيخ سليم جلال الدين، الى الصديق الكبير الأب سليم غزال الذي عاش التعايش لا شعارا، بل ممارسة، وكل من جعل من هذه المدينة نموذجا للعيش المشترك حتى في أحلك الظروف. إن صيدا لا تكتفي بأن تكون مدينة من لبنان، بل هي لبنان مصغر: بتاريخها، بتنوعها، بقدرتها على الصمود والنهوض، وعلى تحويل الجراح إلى فرص للحياة. لقد كانت صيدا، وما زالت، بوابة الجنوب إلى الوطن، وبيتا احتضن الجبل وأهل جزين وكل من قصدها. هي مدينة لا تعرف الإقصاء، بل تبسط ذراعيها للجميع. منها كان الجنوب يتنفس طريقه إلى بيروت، ومنها كانت الدولة تمتد نحو الجنوب. صيدا لم تكن في يوم من الأيام جدارا، بل جسرا، عبر عليه اللبنانيون من مختلف الطوائف والمناطق ليجدوا فيها الأمن والعمل والعلم، وليتعلموا منها معنى الانتماء للوطن الواحد الموحد، العربي الهوية والانتماء كما بات ينص عليه دستورنا منذ اتفاق الطائف. صيدا أيضا كانت وما زالت حضنا دافئا للإخوة الفلسطينيين، الذين لجأوا إليها في نكبتهم، فوجدوا فيها المأوى والأمان. إن مخيم عين الحلوة ليس مجرد مساحة جغرافية، بل ذاكرة حية للوجع الفلسطيني ولتاريخنا العربي المشترك. فلقد احتضنت صيدا الفلسطينيين لا كضيوف، بل كشركاء في المعاناة كما في الكرامة، وأثبتت أن لبنان وان لم يكن كبيرا في مساحته، فهو كبير في إنسانيته. وفي هذا السياق اسمحوا لي ان اذكر بان البيان الوزاري لحكومتنا قد التزم الحفاظ على كرامة الفلسطينيين المقيمين في لبنان وعلى حقوقهم الإنسانية بالتلازم مع تأكيده على حق الدولة اللبنانية في ممارسة كامل سلطتها على أراضيها كافة ومن ضمنها المخيمات الفلسطينية".
تابع:"صيدا اليوم هي مرآة لما نريده للبنان كله:مدينة تنفتح على البحر لتطل منه على المستقبل.مدينة تعرف معنى الصمود، وتعلم معنى العروبة الصادقة. زيارتي اليوم لصيدا ليست زيارة رمزية، بل جئت لأطلع على واقع المدينة الاقتصادي والاجتماعي، من أوضاع مرفئها والحاجة الى توسعته كما الى حماية مرفأ الصيادين التراثي، الى أهمية تطوير مرافق المدينة السياحية والاثرية، كما اطلعت على ضرورة تحسين الخدمات الاستشفائية في المدينة ما يعانيه أهلها من أزمة مزمنة في ملف النفايات تحتاج إلى حل مستدام يحترم البيئة والإنسان معا. صيدا تستحق الأفضل، وهي قادرة على أن تكون نموذجا للمدينة اللبنانية التي تجمع بين التجارة والصناعة، بين التراث والتنمية، بين القطاع الخاص والدولة. ولطالما كان في هذه المدينة مجتمع مدني نشط، مبادر، مسؤول، حمل على عاتقه الكثير في غياب الدولة أحيانا، وحان الوقت اليوم لتتكامل طاقات هذا المجتمع والدولة معا".
وقال:"إن دعم صيدا إنمائيا ليس تفضلا من أحد، بل واجب وطني، وزيارتي اليوم هي للتأكيد أن التنمية ليست شعارا بل التزاما فعليا ستعمل الحكومة عليه خطوة خطوة. زيارتي صيدا هي أيضا امتداد طبيعي لاهتمامنا بالجنوب. فاول زيارة لي بعد تشكيلي هذه الحكومة كانت لصور والخيام والنبطية. يومها قلت، واكرر اليوم متوجها من صيدا الى كل أهلنا في الجنوب، إن العودة والإعمار توأمان لا يفترقان. وهذا التزام ثابت مني ومن الحكومة. لكن الصراحة تقتضي الاعتراف ان ما كنا ننتظره من مساعدات لإعادة الاعمار قد تأخر لاسباب لم تعد تخفى على القاصي والداني ، لكن هذا لن يثنينا عن الاستمرار في السعي الدؤوب مع اشقائنا واصدقائنا لعقد مؤتمر دولي يهدف إلى تأمين التمويل اللازم لإعادة الإعمار والعودة الآمنة والمستدامة لأهلنا إلى قراهم وبلداتهم الجنوبية المدمرة".
اضاف:"أمام غطرسة إسرائيل، واستمرار احتلالها لمواقع في جنوبنا، وانتهاكها لسيادتنا، وتملصها من التزاماتها، تواصل الحكومة حشد الدعم السياسي والديبلوماسي، الإقليمي والدولي، لإلزام إسرائيل تنفيذ ما عليها من التزامات، ووقف اعتداءاتها المتكررة على أراضينا وأجوائنا ومياهنا، والانسحاب الكامل من جنوبنا والافراج عن اسرانا, كونوا على ثقة ان حكومتنا مصرة على التمسك بحق كل اللبنانيين، ولا سيما أبناء الجنوب والبقاع والضاحية، بالعودة الكريمة إلى بيوتهم ومنازلهم وإعادة إعمارها، وهي تعتبر أن حق العودة والإعمار هذا ليس منة من أحد، بل هو التزام وطني. المنطقة تعيش على وقع تحولات تاريخية كبرى، تتجاوز حدود الجغرافيا، اذ انها تبدل موازين القوى وتعيد رسم خرائط المصالح. هذه التحولات تفتح آفاقا جديدة للاستقرار كما تنذر بمخاطر وتحديات لا تقل جسامة. في ضوء هذه التطورات الإقليمية والدولية، ولا سيما ما عبرت عنه اللقاءات الأخيرة ،ومنها مؤتمر شرم الشيخ، من مؤشرات على مرحلة جديدة، يؤكد لبنان تمسكه بموقعه ودوره الطبيعي في محيطه العربي والدولي، على قاعدة المصلحة الوطنية التي يجب أن تبقى البوصلة والميزان لكل السياسات والمقاربات.فالمصلحة الوطنية ليست شعارا يرفع، بل مبدأ سياسي وأخلاقي يرشد الموقف ويضبط الخيارات.في الداخل، فهي تعني تغليب منطق الدولة وسيادة القانون على منطق الفئويات والانقسامات،وفي الخارج، فهي تعني اعتماد كل ما يصون سيادتنا واستقلالنا ويحفظ دورنا العربي وانفتاحنا على العالم. فلبنان لا يعيش بالعزلة ولا يحيا بالتبعية بل بالتوازن وبقدرته على أن يكون مساحة التقاء لا ساحة تنازع. ما أظهرته هذه المرحلة يؤكد أن الدول التي تحسن قراءة التحولات التي تشهدها منطقتنا هي وحدها القادرة على حماية مصالحها وصون أمنها.
فوحده لبنان القوي بدولته، بمؤسساتها وبجيشه الواحد، هو لبنان القادر على الدفاع عن ارضه وصون امن ابنائه. فبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها بقواها الذاتية حصرا، كما نص عليه اتفاق الطائف، ليس مطلبا سياسيا فحسب، بل هو شرط وجودها كدولة.
وكما نحن ملتزمون حصر السلاح بيد الدولة كما جاء في خطاب القسم لفخامة الرئيس وفي البيان الوزاري لحكومتنا، فنحن ملتزمون ايضا مسيرة الإصلاح في كل مجالاتها: المالية، والإدارية، والقضائية. فالدولة لا تصلح بالشعارات، بل بإرادة واضحة ومؤسسات فاعلة وقوانين تطبق على الجميع دون تمييز. فلا أحد يجب ان يبقى فوق القانون، والدستور هو الكتاب، على حد قول الرئيس الراحل فؤاد شهاب، الذي نحتكم إليه في حل خلافاتنا. فبه وحده نحمي الحريات العامة، نصون المساواة المواطنية، نحفظ وحدة الدولة ونحمي امن البلاد. فلنكمل مسيرة الإصلاح معاً، ولنعمل ايضاً على التمسك بديمقراطيتنا وتجديد حياتنا السياسية فنجري الانتخابات النيابية في موعدها ولا نقبل باي تأجيل لها".
وقال:"من صيدا، نعيد التذكير أن لبنان لا ينهض إلا باستعادة دولته، وان لا مناعة للدولة إلا بعدالتها، ولا عدالة من دون قانون واحد يطبق على الجميع بالتساوي. ومن صيدا، نوجه التحية إلى كل الجنوب، إلى صور والنبطية وبنت جبيل ومرجعيون وحاصبيا والعرقوب وقرى الحافة الأمامية، وإلى كل قرية تنتظر العودة والإعمار. فلنتمسك معا بما يجمعنا، ولنجعل من صيدا، من هذه المدينة الصامدة الابية، منطلقا للبنان جديد، متصالح مع ذاته، مؤمن بدولته، واثق بشعبه ومستقبله".
ختم:" أتوجه بالشكر الصادق إلى جميع من ساهم في إنجاح هذا اليوم، من النواب الكرام، وفاعليات المدينة وبلديتها، إلى الأجهزة الأمنية والإدارية، وإلى أبناء صيدا الذين أثبتوا مرة أخرى أنهم شركاء في المسؤولية الوطنية كما في الانتماء. فتحية إلى صيدا مدينة العراقة والعطاء".