راجانا حمية ـ الأخبار
أظهرت دراسة حديثة أنّ أكثر من ربع المراهقين في لبنان يعانون من القلق، و18% راودتهم أفكار انتحارية، وأنّ 62% دخّنوا أول سيجارة وتعاطى 65% مشروبات كحولية وجرّب 79% المخدرات... قبل سنّ الرابعة عشرة!
انتحر كريستوفر، ابن السبعة عشر عاماً، قبل شهرين. برصاصة واحدة أنهى حياته، ودفن معها مستقبلاً كان لا يزال في بداياته. كان في سنته الأخيرة من الدراسة الثانوية، وكان يمكن أن يصبح مهندساً، أو طبيباً، أو مصفّف شعر، أو أي شيء آخر. لكنّه لم يخترْ شيئاً من ذلك، وأنهى حياته منتحراً.
بعده بأسبوعين فقط، انتحر رباح، المراهق الذي كان في العمر نفسه. رصاصة أخرى أنهت كل ما كان يحمله من أحلام وأسباب للبقاء. قبلهما، مرّت عشرات القصص عن مراهقين وجدوا في لحظة يأس طريقاً واحداً إلى الموت: رصاصة واحدة، في لحظة بؤس.
لم تعُد هذه القصص مجرّد حوادث فردية معزولة. بلوغ المراهقين نقطة اللاعودة لا يأتي من فراغ، ولا يحدث بلا أسباب. فمرحلة المراهقة تُعدّ من أكثر المراحل تناقضاً وتعقيداً؛ هي مرحلة يغلب عليها الصمت من جهة، إذ يُعتبر المراهقون من أقل الفئات تعبيراً عن هواجسهم، والأكثر هشاشة على المستوى العاطفي من جهة أخرى.
هذا التداخل بين الصمت والهشاشة يقود، في كثير من الأحيان، إلى خيارات قاسية وخطِرة، كالإقدام على الانتحار أو الانزلاق نحو سلوكيات غير صحية ومحفوفة بالمخاطر. وقد أكّدت دراسات عدّة معنية بصحة المراهقين هذه المؤشرات، من بينها «المسح العالمي لصحة الطلاب في المدارس - لبنان»، الصادر مؤخّراً، والذي كُشف عن بعض نتائجه، الثلاثاء الماضي، في أثناء إطلاق «الحملة الوطنية لصحة المراهقين في لبنان: الترند الصحي».
من الشعور بالوحدة إلى محاولة الانتحار
نُفّذ برنامج المسح العالمي لصحة الطلاب في المدارس داخل المدارس اللبنانية، بإشراف منظمة الصحة العالمية وبالتعاون مع وزارتَي الصحة والتربية. ومن أصل 62 مدرسة جرى اختيارها للمشاركة في المسح، شاركت 51 مدرسة، رسمية وخاصة، وشملت العيّنة نحو 3750 طالباً. وهدف المسح إلى استطلاع آراء الطلاب حول مجموعة من المحاور الأساسية المرتبطة بصحتهم، من بينها الصحة النفسية، وتعاطي الكحول والمخدرات والتبغ والسلوكيات الجنسية والعنف والنظافة الشخصية.
في الخلاصة النهائية للمسح، لا تبدو صحة عدد كبير من المراهقين على ما يرام، لا على المستوى النفسي والعقلي ولا الجسدي. الأرقام التي خرج بها المسح لا يمكن المرور عليها بخفّة، رغم استحالة تعميم نتائج عيّنة تضمّ نحو أربعة آلاف مراهق على مجتمع يُقدَّر بحوالى 900 ألف مراهق في لبنان، خصوصاً أنّ «المراهقين يميلون غالباً إلى الاستعراض، سواء كدليل قوة أو كدليل انهزام»، بحسب الأستاذة في الجامعة اللبنانية ومسؤولة الدراسات في مؤسسة «أمان للإرشاد السلوكي والاجتماعي»، الدكتورة سحر مصطفى، فضلاً عن عوامل تتعلّق بكيفية اختيار المدارس والعيّنة وطبيعة الأسئلة.
فقد صرّح 27% من المراهقين، أي أكثر من ربع العيّنة، بأنهم يعانون القلق والتوتر بشكل متكرّر، وهما من أبرز الأسباب المؤدّية إلى نهايات كارثية، من بينها الانتحار. وأظهرت الدراسة أنّ 18% من المستطلعين راودتهم أفكار انتحارية في أثناء الأشهر الـ12 التي سبقت المسح، فيما وصلت هذه الأفكار لدى 22% إلى مرحلة متقدّمة تمثّلت في وضع خطّة للانتحار، من دون تحديد ما إذا جرى تنفيذها أم لا. أمّا الذين حاولوا فعلياً، فقد بلغت نسبتهم نحو 14%، من دون أن ينجحوا في إنهاء حياتهم.
ولأنّ المراهقة من أكثر المراحل التي يسعى فيها المراهق إلى تجربة كل شيء، غالباً ما تتقاطع خلالها السلوكيات الخطرة وغير الصحية. ففي هذه السنّ، يندفع كثيرون إلى خوض تجارب جديدة بدافع الفضول أو الرغبة في الانتماء أو كسر الممنوع، من دون إدراك كامل لعواقبها.
وتُظهر الدراسة أنّ من أكثر هذه السلوكيات شيوعاً التدخين وتعاطي الكحول والمخدرات. واللافت أنّ التجربة الأولى لهذه السلوكيات غالباً ما تحصل في سنّ مبكرة، وقبل الرابعة عشرة تحديداً. إذ أفاد 62% من المراهقين بأنهم دخّنوا أول سيجارة قبل هذا العمر، فيما تعاطى 65% منهم أول مشروب كحولي، وجرّب 79% المخدرات للمرة الأولى في مرحلة مبكرة من حياتهم.
ولا تتوقّف هذه التجارب عند حدود «المرة الأولى»، إذ تشير النتائج إلى أنّ عدداً من المراهقين واصلوا ممارسة هذه السلوكيات، ولا سيّما التدخين. فقد أفاد 29% من الطلاب بأنهم يدخّنون حالياً. وتصدّرت السيجارة الإلكترونية قائمة الخيارات الأكثر انتشاراً بين هذه الفئة، إذ قال 24% من الطلاب إنهم جرّبوها أو لا يزالون يستخدمونها، مقابل 16% أفادوا بأنهم يدخّنون أو سبق أن جرّبوا السيجارة العادية.
كما تبيّن أنّ 11% من المراهقين يستهلكون الكحول حالياً، فيما أفاد 42% بأنهم يشربون مشروبين كحوليين أو أكثر في اليوم. ورغم محاولة بعضهم التخفيف من وطأة هذه الأرقام عبر تصنيف ما يتناولونه كمشروبات طاقة، إلا أنّ ذلك لا يغيّر من حقيقة احتوائها على الكحول.
أمّا الأخطر، فهو ما كشفته الدراسة عن تعاطي المواد المخدّرة، من الحشيش إلى الأدوية المهدّئة. إذ أظهرت الدراسة أنّ 3% من الطلاب استخدموا القنّب في أثناء حياتهم أو لا يزالون يستخدمونه، وأنّ النسبة نفسها جرّبت الأمفيتامينات (عقاقير منشطة).
غير أنّ المؤشر الأكثر إثارة للقلق يتمثّل في استخدام 25% من الطلاب أدوية نفسية و17% المهدّئات وأقراص النوم. ويُعدّ هذا السلوك شائعاً في ظلّ سهولة الحصول على هذه الأدوية من دون وصفات طبية، وبسبب انخفاض أسعارها.
ويرتبط جزء من أسباب هذه الأرقام بواقع البلاد التي لا تكاد تخرج من أزمة حتى تجد نفسها أمام أخرى، وما يخلقه ذلك من مناخات ضاغطة تجعل المراهقين أكثر عرضة للانحراف نحو سلوكيات خطرة. وفي هذا السياق، تُعدّ وسائل التواصل الاجتماعي أحد الأسباب الرئيسية، إذ يقضي المراهقون ساعات طويلة أمام الشاشات. فقد أظهرت الدراسة أنّ أكثر من ثلاثة أرباع العينة، أي 71%، يستخدمون الإنترنت لأكثر من ثلاث ساعات يوميّاً. ويزداد تأثير هذا الاستخدام حين يرتبط بنقص النوم، إذ أفاد 63% من المراهقين بأنهم لا يحصلون على الحدّ الأدنى الموصى به، والبالغ ثماني ساعات يومياً.
ويطاول تأثير الشاشات النشاط البدني للمراهقين وانعكاساته الصحية. فالجلوس لساعات طويلة، وهو ما يفعله 63% من المراهقين يومياً، يحدّ من ممارسة الرياضة، إذ قال أكثر من 80% منهم إنهم لا يمارسون أي نشاط بدني يومياً. ويترجم هذا الخمول بوضوح على مستوى الوزن، حيث يعاني 28% من زيادة في الوزن، و8% من السمنة.
تحويل الطاقات نحو المكان الصحّ
غالباً ما تُعدّ مرحلة المراهقة مرحلة التجريب، بحسب مصطفى، إلا أنّ التوتر المستمرّ في المجتمع والتقلّبات السريعة جدّاً يزيدان من صعوبة هذه المرحلة، إذ يجد الأهالي وحتى المنظمات الأهلية صعوبة في توفير الدعم الكافي لتوجيه المراهقين نحو السلوكيات الصحيحة. فالأزمات المتلاحقة، وما مرّ به المراهقون خصوصاً في أثناء الأزمة الأخيرة وأصاب الكثير من العائلات، يجعل هؤلاء أقل قدرة على التكيّف مع الصدمات مقارنة بمن هم أكبر سنّاً. ولهذا، تولي البلدان التي تعاني من حروب وأزمات عادة اهتماماً خاصاً للدعم النفسي والاجتماعي للمراهقين، وهو أمر لا يزال ضعيفاً نسبياً في لبنان.
وتضيف الدكتورة مصطفى، عوامل أخرى تسهم في تعقيد مرحلة المراهقة، منها سهولة الوصول إلى الأدوية والممنوعات. كما تؤدّي فضاءات التواصل الاجتماعي دوراً كبيراً في التحدّيات التي يواجهها المراهقون، إذ لا سقوف لمعظم محتواها. وتعطي مثالاً على ذلك تطبيق «تيك توك»، الذي يوجّه غالبية تحدياته إلى المراهقين، وتصل أحياناً إلى حدود قصوى، مثل تحدي البقاء خمسة أيام بلا نوم.
أضف إلى ذلك ما تفتحه هذه الفضاءات من أبواب مضايقات مباشرة للمراهقين، من التنمّر (28% تعرّضوا للتنمر) إلى الابتزاز الإلكتروني (13.8%). وفي المقابل، تراجعت نشاطات كثير من منظمات المجتمع المدني التي كانت تقدّم الدعم والمساندة، مثل الحركات الكشفية وبرامج التطوّع، نتيجة نقص التمويل أو التحوّل في اهتماماتها، ما خلق فراغاً كبيراً استثمره المراهقون في تجربة سلوكيات خطرة.
كل هذه العوامل تدفع المراهق أحياناً إلى «سلوك الأهون»، مثل إيذاء نفسه أو الانتحار. وأخطر ما في هذه المرحلة العمرية هو شعور المراهق بأنه قادر على إدارة شؤونه، بينما في الوقت نفسه يمتلك هشاشة عاطفية عالية، ما يجعله يسقط في لحظة ضعف. ومن هنا، توضح مصطفى، أنّ المراهقين يقبلون بالمساندة ممّن يعرف كيف يقدّم الدعم، لأنهم غالباً لا يبوحون ولا يصرخون ولا يعبّرون كما الأطفال.
ويحدث هذا في ظلّ غياب الضوابط وضعف آليات التدخّل والمراقبة، ومنها ضعف الإرشاد التربوي في المدارس. إذ يوجد مثلاً مرشد واحد لمئات الطلاب، ما يجعل من الصعب متابعة التغيرات قبل الوصول إلى مرحلة الانحراف. وبحسب مصطفى، المطلوب إعادة الاعتبار للدعم النفسي والاجتماعي وتعزيز أدوار الدولة، مثل تفعيل مكتب جرائم المعلوماتية (غالبية ضحايا الجرائم الإلكترونية من المراهقين) ومكتب مكافحة المخدرات، على الأقل لمكافحة هذه الآفة في المدارس.
مع ذلك، ليس المشهد قاتماً بالمطلق، إذ تشير مصطفى إلى عدد البرامج ومنها برنامج الصحة النفسية في وزارة الصحة وبعض الجهات والمبادرات ومنها العمل التطوّعي وعمل بعض الجمعيات «التي تعمل على تحويل طاقات المراهق إلى مكان آخر أو على الأقل تفتح له الأبواب لتفعيلها في المكان المناسب وترك بعض الهوامش له للتجربة مع المواكبة والمساندة والدعم».
«خلينا نبلش ترند جديد بلبنان»
أطلقت وزارات الصحة والتربية والرياضة، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، الحملة الوطنية حول «صحة المراهقين: الترند الصحي». ركّزت الحملة على موضوعات أساسية تشكّل قاعدة لإعادة تصويب المفاهيم لدى المراهقين، بطريقة تتوافق مع أسلوبهم ولغتهم الخاصة.
وبدلاً من اعتماد الفيديوهات التوعوية التقليدية ذات الأسلوب الرسمي أو «الخشبي» حول السلامة المرورية، الصحة النفسية، التغذية، النشاط البدني، الصحة الرقمية، والوقاية من المواد الضارّة، اختارت الحملة أسلوباً أقرب إلى المراهقين. وكان أول تغيير ملموس تعديل مصطلح «توعية» إلى «ترند»، مع تقديم المعلومات بعبارات مبسّطة وقصص مصوّرة تحاكي اهتماماتهم. هكذا أرادها المعنيّون حملة صديقة للمراهقين بلا تكلّف ومستوحاة منهم وتتحدّث بلغتهم.