رشا علي ـ الأخبار
رغم مظاهر البؤس التي تظلّل مخيم شاتيلا في بيروت، إلا أن هموم الحياة اليومية لم تعد الشاغل الأول لسكانه. فقد طغى الحديث عن مصير السلاح على كل ما عداه، وبات هاجساً محورياً داخل الأزقة الضيقة التي تعجّ بحركة الناس.
في الزوايا المكتظّة، تنشأ نقاشات عفوية بين مجموعات من الشبان، حول توقيت تسليم السلاح، والآليات المرتقبة لتنفيذ ذلك، ودور الجيش اللبناني، فضلاً عن مواقف الفصائل الفلسطينية. النقاشات مفتوحة إلى حدّ أنها تستقطب المارّة للمشاركة، ما يكشف عن جانب مهم غائب إلى حدّ كبير عن التغطيات الإعلامية والتحليلات السياسية: ما هو رأي اللاجئ الفلسطيني في مسألة السلاح؟ وهل ثمّة إجماع داخل المخيمات بشأن هذه المسألة؟
الحديث عن سلاح المخيمات الفلسطينية لا يمكن أن يُختصر بمقاربة أمنية أو تقنية، بل يفرض، من حيث طبيعته، تمييزاً دقيقاً بين ما يعتبره اللاجئون «سلاحاً شرعياً يخدم القضية الفلسطينية» وما يصنّفونه «سلاحاً متفلّتاً» غالباً ما ينقلب ضرره على أبناء المخيم أنفسهم.
هذا التمييز ليس تفصيلاً، بل يشكّل القاعدة التي يجتمع عليها اللاجئون الذين التقتهم «الأخبار» في مخيم شاتيلا، حيث يؤكد معظمهم أن السلاح المرتبط بالمقاومة وحق العودة هو «خط أحمر»، ليس فقط بوصفه أداة دفاع، بل باعتباره رمزاً لهوية سياسية ووطنية يصعب التفريط فيها. ولا يخفي هؤلاء قلقهم من أن يُستخدم أي مشروع لنزع السلاح كمدخل لتفريغ المخيمات من بعدها السياسي، ومن ثم تذويب القضية نفسها في إطار ترتيبات قد تكون مؤقّتة في ظاهرها، لكنها طويلة الأمد في أهدافها. هذا القلق يتغذّى من الذاكرة الثقيلة التي يحملها الفلسطينيون في لبنان، والخوف من تكرار المجازر التاريخية التي تعرّضت لها المخيمات الفلسطينية. ويقول خمسيني من أبناء المخيم: «ذاكرتنا لا تسامح. لا ضمانات حقيقية اليوم، والمجتمع الدولي لا نثق به... السلاح هو ما تبقّى لنا لندافع به عن أنفسنا وكرامتنا».
يقول محمود داوود، وهو ثلاثيني يدير دكاناً صغيراً في أحد أزقة شاتيلا: «السلاح هو الضمانة الوحيدة المتبقّية للحماية في ظلّ تقاعس الدولة»، محذّراً من أن أي خطوة لتسليمه قد تفتح الباب أمام تكرار المآسي التي حفرت عميقاً في ذاكرة المخيم، من تل الزعتر إلى صبرا وشاتيلا.
وبنبرة يختلط فيها اليأس بالسخرية، يعلّق محمود على سؤال عمّا إذا كان تسليم السلاح قد يساهم في توحيد الصف الفلسطيني وخطاب الفصائل: «مستحيل. هذه الفصائل لا تلتقي أبداً، وإن اجتمعت فسيكون ذلك على قاعدة الخضوع لا الوحدة».
في مقابل التشبّث بـ«السلاح الشرعي»، يبرز داخل المخيم صوت آخر لا يقلّ إلحاحاً، يدعو إلى ضبط السلاح المتفلّت للعصابات وتجار السلاح، والذي تحوّل إلى أداة للجريمة والفوضى، مهدّداً أمن السكان اليومي، ومشوّهاً صورة المخيم وأهله.
في إحدى الزوايا، تروي سيدة خمسينية متّشحة بالسواد كيف فقدت ابنها الوحيد، وهو في السادسة والعشرين من عمره بعدما أطلق عليه شاب النار من دون سبب، كما تقول، مضيفة: «ما زلت أؤمن بالقانون، وسأسعى حتى النهاية للاقتصاص من القاتل في المحكمة». لكنها تتمنّى أن تمتدّ المطالبة بضبط السلاح إلى ما هو أبعد من حدود شاتيلا: «نريد أن يزول هذا السلاح من كل المناطق المحيطة بالمخيمات، لا من داخلها فقط، حتى لا تتكرر مآسٍ مثل مجازر عام 1982 حين تعرّضت المخيمات لهجمات قاسية من جيش لحد والكتائب وسواهما».
وسط الآمال بأن تنعم المخيمات بالأمان والاستقرار، يلفت البعض إلى أن أي مسعى جدّي لتنظيم السلاح يجب أن يمر أولاً عبر معالجة ملف المطلوبين للعدالة، ولا سيما أولئك المتوارين بسبب مخالفات فردية بسيطة، كإطلاق نار عرضي أو مشادّات شخصية. فاستمرار إصدار مذكّرات توقيف مفتوحة بحقهم، من دون النظر في ظروفها أو خطورتها، يكرّس بيئة ملائمة للجريمة ويزيد من تعقيد مسألة ضبط السلاح.
ويبقى أيّ بحث في ملف السلاح داخل المخيمات والتجمّعات الفلسطينية ناقصاً ما لم يُقارب في سياقه الأشمل: الواقع الإنساني والحقوقي للاجئين. ففي أحد الأزقة، يرفض «أبو عمار» الربط المباشر بين تسليم السلاح وحلّ الأزمات الأمنية، مشدّداً على أن «السلاح ليس هو القضية، بل النتيجة»، متسائلاً بنبرة غاضبة: «كيف صار السلاح أولوية، بينما نحن لا نزال نُحرم من أبسط الحقوق في التملّك والعمل والتعليم والطبابة وفي بيئة سليمة وصحية؟».
عند مدخل منزله الضيّق، يضع أبو عمار كنبة قديمة لا مكان لها داخل الجدران المكتظة، كأنها تهمس للعابرين بأن الإقامة هنا مؤقّتة، في انتظار عودة طال أمدها. يقول بأسى: «نحن لسنا سعداء في هذه المخيمات، ولا بهذه الحياة... وهم مشغولون فقط بالسلاح».
بوابة صيدا موقع إخباري متنوع ينطلق من مدينة صيدا ـ جنوب لبنان، ليغطي مساحة الوطن، والأمة العربية، والعالمين الإسلامي والغربي.. يقدم موقع (www.saidagate.com) خدمة إخبارية متنوعة تشمل الأخبار السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإسلامية، والمقالات المتنوعة.. تقوم سياسة الموقع على الحيادية، والرأي والرأي الآخر، يستقي الموقع أخباره، من تغطيته للأحداث، ومن وكالات الأنباء العربية والعالمية..