ماريانا الخوري ـ نداء الوطن
في الآونة الأخيرة، لم يعد الجدل التربوي في لبنان محصوراً بمشاكل المناهج أو نقص التمويل. ثمّة تحوّل أعمق وأخطر يتسلّل إلى قاعات الصفوف الرّسمية، تحت عناوين برّاقة مثل "الصحة الإنجابية"، و"المهارات الحياتية"، و"الاستكشاف الذاتي".
شرارة هذا الجدل انطلقت من استبيان رسميّ نشرته وزارة التربية والتعليم العالي عبر منصّاتها، تضمّن سؤالاً عن "الجنس" بصيغة: "ذكر – أنثى – أفضّل ألّا أقول". ردود الفعل الغاضبة دفعت الوزارة إلى سحب الاستبيان متذرّعةً بـ"سوء الفهم"، لكن ما تبيّن لاحقاً أنّ السؤال لم يكن خطأ تقنياً عابراً، بل تجربة مقصودة لجسّ نبض المجتمع وتحضير الأرضيّة لدمج مفاهيم "الهوية الجندرية" في التعليم الرسمي بشكل تدريجيّ وممنهج. وفي خطوة موازية، أطلقت الوزارة – منذ عهد الوزير السابق عباس الحلبي واستكملت ذلك الوزيرة الحالية – سلسلة تدريبات داخل المركز التربويّ، هدفت إلى إعداد المعلّمين على مفاهيم مثيرة للجدل، كالجندر والهويّة الجنسيّة والعلاقات خارج إطار الزواج، متجاهلة بذلك ما تمثّله هذه المفاهيم من صدمة لقيم المجتمع اللبناني وثقافته الدينية والعائلية.
لكن أخطر ما سُجّل حتى اليوم، وقع في إحدى الثانويات الرسمية في طرابلس، حيث دخلت موفدتان من جامعة خاصة إلى الصّفوف بإذن رسميّ، وقدّمتا للطالبات محاضرة بعنوان "الصحة الإنجابية". لم يكن الحديث علمياً بحتاً، بل حمل في طياته ترويجاً مباشراً للحرية الجنسية، لحرية الإجهاض، إلى جانب توزيع مفكّرات تتضمّن روابط إلكترونية مرتبطة بمنصّات تدعو إلى "حرية الهوية الجنسية".
فمن أعطى الإذن؟ ومن وافق على المحتوى؟ ولماذا يتكرّر المشهد للمرة الثالثة في أقلّ من عام تحت تسميات مختلفة؟
خداع باسم التوعية
في حديث خاص مع "نداء الوطن"، أوضح النائب أشرف ريفي أنّ امرأتين قدّمتا نفسيهما على أنهما من إحدى الجامعات الخاصة، دخلتا صفوف البنات في إحدى الثانويات الرسمية في طرابلس، بحجّة أنّهما جاءتا لتعريف الطالبات بالجامعة الخاصة ولتقديم التوعية، فأذنت لهما الإدارة بالدخول على هذا الأساس، حيث لم يكن الهدف تعريف الطالبات بالمنح الدراسية أو توجيههنّ أكاديمياً، ولا توعيتهنّ بل تمّ تمرير أفكار مدمّرة، كما أنّ المحاضرات قُدّمت لطالبات يبلغن من العمر 16 و 17 عاماً.
وتابع ريفي: "ما جرى لا ينسجم مع التربية اللبنانية، ولا مع تعاليم الديانة المسيحية أو الإسلامية. الأهالي عبّروا عن غضبهم، ونحن بدورنا تحرّكنا فوراً لمنع تكرار مثل هذه الانتهاكات".
مضمون "خادش"
بحسب معلومات خاصة حصلت عليها "نداء الوطن"، فإنّ السيّدتين تحدّثتا أمام الطالبات عن مواضيع حسّاسة تتعلّق بالعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، والحبّ بين الفتيات، وأساليب جذب الذكور، كما تمّ عرض صور وُصفت بالخادشة للحياء داخل قاعة الصف.
وبحسب ما ورد، فقد تمّ التشجيع بشكل مباشر على إقامة علاقات جنسية في سن مبكرة، مع الإشارة إلى أنّ الأمر يندرج ضمن "الحرية الشخصية"، سواء أكانت العلاقة مع الذكور أم مع الإناث.
كما شرحتا مفهوم "الصحة الجنسية" من وجهة نظر اعتبرها عدد من الأهالي منحرفة، وتحدثتا عن أفضل الأوقات لممارسة العلاقة الجنسية لتفادي حدوث حمل. كذلك، قُدّمت معلومات عن العقاقير واللقاحات التي تقي من الأمراض المنقولة جنسياً، لا سيّما فيروس نقص المناعة (HIV) .
ولم تتوقف المحاضرة عند هذا الحدّ، بل تمّ توجيه الفتيات إلى أساليب "جذب الذكور"، وتشجيعهن على اكتشاف مشاعر الانجذاب الجنسي، إضافة إلى الترويج لاتفاقية "سيداو"، التي وُصفت بأنها تكرّس الحريات الجنسية تحت غطاء حقوق الإنسان. وفي ختام المحاضرة، وُزّعت مفكّرات على الطالبات موقّعة باسم جمعية تدعى "Women Integrated Sexual Health Program at AUBMC"، وتضمّنت هذه المفكّرات روابط إلكترونية للتواصل والحصول على مزيد من المعلومات والتوجيه.
توعية أم انحراف؟
روت إحدى تلميذات "ثانوية فضل المقدم الرسمية" في طرابلس لـ "نداء الوطن" أن الجلسة التي قدّمت داخل الصف خرجت تماماً عن إطار التوعية المقبولة، وقالت: "لم يكن هناك أي ناظر أو مشرف داخل الصف أثناء الجلسة، دخلت امرأتان بدعوى تقديم توعية، لكنّ حديثهما لم يكن مناسباً لتربيتنا، وكان مخالفاً لتقاليدنا وقيمنا، تحدّثتا عن أنه من الطبيعي أن تمارس فتاة الجنس مع فتاة، وقالتا إن كلّ إنسان لديه غريزة، ومن الممكن أن تظهر هذه الغريزة بين بنت وبنت".
وأضافت: "صدمنا ممّا سمعناه، ولم يكن بوسعنا إيقافهما. وفي نهاية الجلسة، طلبتا منّا متابعة صفحة على الإنترنت وعندما دخلنا إليها لاحقاً، تفاجأنا بمحتوى جنسي صادم". وتابعت: "لم يكن هناك أي إشراف علينا، وكلّما دخل ناظر إلى الصفّ كانتا تغيّران الموضوع، ثم تعودان لمواصلة الحديث الأصلي بعدها".
وزارة التربية تُوضح
من جهتها، أصدرت وزارة التربية والتعليم العالي بياناً توضيحيّاً وجاء فيه:
- إنّ البرنامج المذكور كان قد نال الموافقة في عهد الوزارة السابقة.
- حرصاً على سلامة التلامذة النفسية والصحية، أعطت الوزارة تعليمات فورية بتوقيف تنفيذ البرنامج وسحب المادة التعليمية التي تمّ توزيعها.
- تمّ تكليف مديرية التعليم الثانوي بإجراء تحقيق داخلي للوقوف على ملابسات إصدار الموافقة وآلية تنفيذ الجلسات في المدارس.
أوضح مصدر مسؤول من داخل وزارة التربية لـ "نداء الوطن" أنّ "الإذن لم يُمنح على هذا الشكل من المضمون، وأنّ الوزارة حالياً تتحقّق من تفاصيل الموافقة الأصلية، بانتظار التقرير النهائي لرفعه إلى الوزيرة كرامي لاتخاذ الإجراءات المناسبة".
هي سابقة من نوعها، حيث لم تُفتح أبواب المدارس يوماً أمام جمعيات مشبوهة، ولم تُنظّم محاضرات تتجاوز الخطوط الحمراء الأخلاقية والدينية، ولم تُدخل مفاهيم الجندر والحرية الجنسية إلى الصفوف تحت مسمّيات برّاقة.
من المسؤول عن هذه الفوضى؟ وهل من طريقة لفرض رقابة مسبقة على مضمون المحاضرات وأنشطة الجمعيات والمنظمات داخل المدارس وحتّى الجامعات؟ فهل يُعقل أن يُترك هذا الملف الحساس بيد جمعيات تعمل خارج أي رقابة، أو بغطاء شبه رسمي، ثم يُطلب من الناس تصديق أنّ كلّ شيء "سوء تفاهم"؟
إنّ ما يجري اليوم ليس عفوياً، ولا يمكن أن يمرّ تحت عنوان الاجتهاد الفردي. هناك من يخطّط، ومن يمرّر، ومن يُغفل الرقابة، وهذه المسؤوليات لا تسقط بالتنصّل أو بالصمت.