رنى سعرتي ـ نداء الوطن
اعتبر كبير الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في معهد التمويل الدولي، د. غربيس إيراديان في مقابلة مع «نداء الوطن» أن صندوق النقد الدولي يبدي ليونة كبرى خلال جولة التفاوض الحالية للتوصّل إلى برنامج إنقاذ مع لبنان، خصوصاً بعد الدمار الشامل الذي ولّدته الحرب الأخيرة، معتبراً أن الإصلاحين المطلوبين على صعيد السرية المصرفية وإصلاح المصارف سيكونان كافيين للتوصل إلى اتفاق مع الصندوق، معتبراً أن حلفاء «حزب اللّه» في البرلمان لن يعرقلوا تلك التعديلات لأنهم على دراية بأن الدول العربية هي الداعم الوحيد القادر على إعادة إعمار ما دمّر وهم بحاجة لتمرير الإصلاحات للحصول على الدعم الدولي بعد التوصّل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي.
- رحّب فريق صندوق النقد الدولي خلال زيارته إلى بيروت بطلب السلطات اللبنانية برنامجاً اقتصادياً يدعمه الصندوق. هل تعتقد أن لبنان سيعتمد هذه المرّة برنامج إصلاح شاملاً وينفّذ الإصلاحات اللازمة، أم يسير بإصلاحات مجتزأة كالعادة؟
لا يزال النظام السياسي اللبناني، بانقساماته الطائفية المترسخة، يشكل عائقاً كبيراً أمام الإصلاحات الاقتصادية. كان من الممكن تجنّب الأزمة الاقتصادية والمالية التي بدأت أواخر عام 2019 لو تمّ تنفيذ سياسات تصحيحيّة على الفور. ومع ذلك، فقد ازداد الاستعداد لبدء تنفيذ الإصلاحات العاجلة في الشهرين الماضيين مع انتخاب رئيس ذي توجّه إصلاحيّ وتشكيل حكومة كفوءة. علاوة على ذلك، أصبح لدى لبنان الآن حاكم للبنك المركزي مؤهل من المرجّح أن يتعاون مع الحكومة في تنفيذ الإصلاحات الحاسمة، على عكس الحاكم السابق رياض سلامة الذي أعاق باستمرار تنفيذ الإصلاحات المالية التي قدّمتها الحكومتان السابقتان.
- ما تقييمكم للبيان الصحافي الصادر عن فريق صندوق النقد الدولي عقب زيارته الأخيرة لبيروت؟
أشاد فريق صندوق النقد الدولي ببعض التقدّم الذي أحرزته السلطات اللبنانية، بما في ذلك توحيد أسعار الصرف المتعدّدة، والقضاء على عجز الموازنة في عامي 2023 و 2024، وخفض التضخم السنوي. إلّا أن فريق الصندوق أشار إلى أن هذه الخطوات غير كافية لمواجهة التحدّيات الاقتصادية والمالية والاجتماعية، وأعرب عن أمله في أن تبدأ السلطات بتنفيذ الإصلاحات المالية والهيكلية العاجلة قبل اجتماعات الربيع لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في واشنطن، والمقرر عقدها في الفترة من 21 إلى 26 نيسان الحالي. وتشمل الإجراءات الرئيسية التي يتوقعها صندوق النقد الدولي من السلطات، قبل اجتماعات الربيع ما يلي:
- تعديل قانون السرّية المصرفية لمواءمته مع المعايير الدولية لمكافحة الفساد والتهرّب الضريبيّ.
- موافقة البرلمان على إطار عمل لإصلاح (resolution) البنوك ومعالجة الخسائر المالية الكبيرة. وستزداد احتمالية التوصّل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي إذا نفّذت السلطات هذين الإصلاحين في الأسابيع القليلة المقبلة.
- ماذا لو لم يتمّ التوصّل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي بسبب فشل السلطات اللبنانية في تنفيذ الإصلاحات، وبسبب انتهاك إسرائيل المتكرّر قرارَ وقف إطلاق النار 1701؟
من المرجح ألّا يُنفذ الإصلاحان الجوهريان المذكوران أعلاه في المدى القريب، إذ لا تزال المصالح السياسية الممثلة في البرلمان تعارض هذه الإصلاحات كما فعلت في السنوات الأربع الماضية. في هذه الحالة، لن يتمّ التوصّل إلى اتفاق على برنامج اقتصادي يدعمه صندوق النقد الدولي، وسيكون الدعم المالي من المجتمع الدولي في معظمه مساعدات إنسانية، ولن يكفي لتغطية ربع التمويل اللازم لإعادة الإعمار (الذي يُقدّره البنك الدولي بحوالى 14 مليار دولار). في هذه الحالة، سيظلّ النموّ ضعيفاً، وستظلّ البطالة أعلى بكثير من 30 %، وسيُغادر المزيد من اللبنانيين بحثاً عن فرص العمل في الخارج، وستنخفض احتياطيات النقد الأجنبي إلى أقل من 7 مليارات دولار بحلول العام 2029. وفي هذا السيناريو أيضاً، ستظل معظم الودائع غير قابلة للسحب.
ولكنني متفائل بإمكانية حصول سيناريو الإصلاح العميق لمعهد التمويل الدولي بنسبة 60 %. وقد رفعتُ احتمال سيناريو الإصلاح العميق من 50 % إلى 60 % على الرغم من تزايد التوترات الإقليمية، والتي أعتقد أنها ستستقر خلال شهرين. ويعود سبب تفاؤلي إلى التعيين الأخير لحاكم جديد في البنك المركزي، ذي توجّه إصلاحي، واستعداد السلطات لتعديل قانون سرّية المصارف والبدء بإعادة هيكلة القطاع المصرفي. سيمهّد هذا الطريق للتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي بشأن برنامج إصلاح شامل بحلول تموز من هذا العام، ما سيوفّر مساعدة مالية كافية من المجتمع الدولي. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للبنان جذب استثمارات أجنبية مباشرة كبيرة من دول مجلس التعاون الخليجي. سيبلغ متوسط نموّ الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي 6 %، وسيُحرّكه الاستثمار الأجنبي المباشر، والاستثمار العام (المموّل في الغالب من قروض أجنبية رسمية بشروط ميسّرة مخصصة لمشاريع محدّدة)، وصادرات السلع والخدمات. سيتقلّص عجز الحساب الجاري مدعوماً برفع الحظر عن الصادرات اللبنانية إلى المملكة العربية السعودية، وانتعاش قوي في عائدات السياحة، مع رفع حظر السفر إلى لبنان. إلى جانب التدفّقات الرأسمالية الصافية الكبيرة غير المقيمة، ستؤدي هذه العوامل إلى زيادة الاحتياطيات الرسمية من 10.7 مليارات دولار في آذار 2025 إلى 28.9 مليار دولار بنهاية عام 2029. كما سيتحسّن الفائض الأولي للموازنة من 1 % من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024 إلى 4 % من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2029 (الجدول المرفق). في هذا السيناريو، ستصبح معظم الودائع متاحة خلال السنوات الخمس إلى الثماني المقبلة.
- أشار الحاكم الموقت لمصرف لبنان وسيم منصوري، إلى أن البنك المركزي تلقى عروضاً لاستثمار احتياطيات الذهب. هل توافق على هذه الفكرة في سياق تقرير شامل أم لا؟
اعتباراً من 3 نيسان 2025، بلغت قيمة احتياطيات لبنان من الذهب 28.7 مليار دولار. يُفضّل أن يقترن هذا الاستثمار باحتياطيات الذهب بتنفيذ برنامج إصلاح شامل واتفاقية مع صندوق النقد الدولي، وإلا فستُهدر هذه الموارد. تجدر الإشارة إلى أنني كنت أوّل من اقترح استخدام جزء من الذهب، سواء بالبيع أم بالاستثمار، لتسوية ودائع الحسابات الصغيرة والمتوسطة الحجم في فترة زمنية قصيرة نسبياً. ومن الناحية المثالية، يمكن بيع ثلث الذهب (حوالى 9.5 مليارات دولار) بعد موافقة مجلس النواب واستثمار الباقي.
- ما نصيحتكم لحاكم مصرف لبنان الجديد كريم سعيد؟
نحن في معهد التمويل الدولي، نشعر بالتفاؤل لاختيار السلطات اللبنانية مؤخراً السيد كريم سعيد حاكماً جديداً لمصرف لبنان المركزي. سيرته الذاتية مثيرة للإعجاب. فهو يتمتع بمعرفة مالية واسعة، وخبرة عميقة في اللوائح المصرفية، ومهارات في صنع القرار، وصفات قيادية. ومع ذلك، سيواجه الحاكم الجديد تحدّيات كبيرة تراكمت على مدى الثلاثين عاماً الماضية تحت قيادة الحاكم السابق، رياض سلامة، الذي يُلام على الأزمة المالية، إلى جانب الحكومات المتعاقبة. تتضمّن نصيحتي أو اقتراحاتي ما يلي:
1. ضمان استقلالية مصرف لبنان، وهو أمر بالغ الأهمية لكسب المعركة ضد التضخم وتحقيق نمو سريع ومستدام في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي. معظم محافظي البنوك المركزية حول العالم بعيدون من التأثيرات السياسية.
2. دعم تنفيذ الإصلاحات العاجلة، بما في ذلك تعديل قانون السرية المصرفية لتلبية المعايير الدولية، والبدء بإعادة هيكلة القطاع المصرفي في أقرب وقت ممكن.
3. الاستمرار في سياسة عدم تمويل الموازنة التي بدأت عام 2023.
4. تعزيز قدرات البحث والإحصاء الاقتصادي لمصرف لبنان، والتي أُهملت سابقاً.
5. بالتعاون مع وزير المالية ووزير الاقتصاد ورئيس الوزراء، اختيار نواب محافظين مؤهلين، على أن يكون اثنان منهم من ذوي الخبرة الواسعة في الاقتصاد الكلي، ويفضل أن يكونا حاصلين على درجة الدكتوراه في الاقتصاد، ولديهما خبرة عملية طويلة في صندوق النقد الدولي.
- لقد ذكرتم مراراً وتكراراً أن قاعدة البيانات الاقتصادية اللبنانية ضعيفة جداً. هل يمكنكم توضيح هذه المسألة؟
تُعدّ الإحصاءات الموثوقة، مفتاحاً أساسياً لفعالية صنع السياسات والتحليلات. تدهورت قاعدة البيانات الاقتصادية اللبنانية في السنوات الأربع الماضية بسبب انخفاض مستويات حضور الموظفين في معظم الوزارات وإدارة الإحصاء المركزي، وعدم كفاية تخصيص الموارد البشرية المؤهلة لإعداد وتقدير الحسابات القومية وإحصاءات القطاع المالي الموثوقة في الوقت المناسب. وقد أدّى هذا الوضع إلى تقويض المساءلة والتحليل الاقتصادي. علماً أن الحسابات القومية من قبل إدارة الإحصاء المركزي متاحة الآن حتى العام 2021 فقط.
من المؤسف أن معظم الاقتصاديين في القطاعين الرسمي والخاص في لبنان يفتقرون إلى الخبرة اللازمة حتّى لتقدير أو تحديث الناتج المحلي الإجمالي بالليرة اللبنانية وبالدولار الأميركي، على الرغم من توافر متوسط التضخم الفعلي وأسعار الصرف. على سبيل المثال، حتى وقت قريب، أشار كبار المسؤولين الحكوميين والاقتصاديين المحليين إلى أن أرقام الناتج المحلي الإجمالي للبنان بين 22 و 26 مليار دولار أميركي لعام 2024، بدلاً من 3207 مليار دولار كما هو موضح في الجدول المرفق.
كما تدهورت جودة الحسابات المالية وتوقيتها. وهناك تأخير كبير في إصدار البيانات المالية بسبب نقص الكوادر الفنية الكافية في وزارة المالية. وحتى 31 آذار 2025، لا تتوفر أحدث البيانات المالية التفصيلية إلّا حتى عام 2021 على الموقع الإلكتروني لوزارة المالية. ومن المؤسف أيضاً أن ميزانيتي عامي 2024 و2025 استندتا إلى أرقام الناتج المحلي الإجمالي الاسمي (بالليرة اللبنانية والدولار الأميركي) مُقلّلة بشكل كبير من قيمتها الحقيقية، ما أدّى إلى تقديرات أقل من تقديرات الإيرادات. علماً أن الافتراضات الموثوقة للناتج المحلي الإجمالي ومتوسط التضخم تعدّ أمراً بالغ الأهمية لإعداد إيرادات ونفقات الحكومة المدرجة في الميزانية.